إنه ليوم وإن احتوته لجج الزمن العاتية واستقرت به في أغوار الماضي، فإن له بين شفاف القلوب الذاكرة للجميل، وفي أعماق النفوس المطوية على الوفاء، أثراً لا أحسب النسيان يقوى على طمس معالمه. إذ امتدت فيه يد القدر من بطون الغيب إلى قلب (الزهاوي) فأسكنته، وإلى لسانه فأسكتته، وبذلك غيضت من مناهل الحكمة منهلاً دفاق الفيض، وأطفأت من مشاعل العرفان مشعلاً وضاء السنا، وقطعت من قيثارة الشعر وتراً رنان الصوت، وتركت في كل فؤاد حسرات تضطرم، وفي كل عين عبرات تختنق!
فكان يوماً لا نملك حين ينساب إلينا من مطاوي كل عام إلا أن نقف فيه وقفة الذاكر المحزون لنحلق بأجنحة الذكرى إلى أجواء رفيعة من النبوغ والعبقرية، وآفاق مترامية من الإبداع والعظمة، تزيدنا إعجاباً بالزهاوي، وإجلالاً لقدره، ويقيناً بأن خسارتنا فيه كانت أعظم مما قدرناه بكثير
ثم لا تلبث الذكرى أن تفتح لنا من أسفار المجد سفراً أفعم (الزهاوي) صفحاته بمآثره ومفاخره لنستمد منه لضلالنا هدى ولمحنتنا تجربة، ولنستوحي كلمة حتى نفرغها في مسامع أولئك الذين بخسوا (الزهاوي) حقه، وأنكروا عليه نضاله المجيد وكفاحه الخالد وما كانوا إلا أنفسهم يظلمون، وستبقى آثار (الزهاوي) لنهضتنا معيناً ثراً لا ينضب سيله الطامي ولا يغور. . .
وحسبنا - ومجال البحث لا يتسع للإطالة والإسهاب - صفحات من هذا السفر نقلبها بين أيديهم، لينعموا النظر فيها، وليحكموا بعقول سالمة من الأهواء، وضمائر خالصة من الأحقاد، على أدب (الزهاوي) وجهاده.
يقول الزهاوي: (. . . غنيت لأبناء وطني أريد إيقاظهم، فلما فتحوا عيونهم شتموني، ثم غنيت، فأخذوا ينظرون إلي شزراً، ثم غنيت فابتسموا لي، ثم هتفوا لي وبقى فيهم من يشتم، وغنيت وسأغني إلى أن يسكتني الموت، وسوف تبقى بعدي كلماتي معربة عن شعوري وما كابدته في حياتي من شقاء واضطهاد، فهي دموع ذرفتها براعتي على الطرس ناطقة بآلامي وهي خليقة بأن تذرف من عيون قارئها دمعة هي كل جزائي من نظمها. .