فصلنا من جُدَّة مغرب الثلاثاء خامس عشر ذي الحجة، متوجهين تلقاء المدينة، وهي مسافة تقطعها قوافل الإبل في ١٤ يوماً. وبعد مسير سبع ساعات في طريق سهلة على مقربة من البحر بلغنا رابغاً. وهي قرية ذات نخل على مسير ساعة من البحر للراجل، تجتمع فيها طرق بين جدة ومكة والمدينة، وإذا حاذاها الحجاج القادمون من الشمال في البحر الأحمر أحرموا للحج، وليست هي ميقات للإحرام ولكن الميقات الجحفة على عشرة أميال إلى الجنوب منها
واستأنفنا المسير ضحى الخميس آملين أن نبلغ طيبة عشية اليوم ولكن الرمال عوّقت بعض السيارات فبتنا في أبيار بن حصان. ثم غدونا سائرين ونزلنا بالمسيجيد بعد ثلاث ساعات. واستأنفنا السير حتى العصر فلاح لنا النخل أخضر يانعاً يبشر باقتراب الغاية؛ ونزلنا آبار علي وهي ذو الحليفة ميقات أهل المدينة. ومنه أحرم النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع. ثم سرنا فلاحت لنا بعد قليل المدينة المنورة تتوجها القبة الخضراء، كأنما تباهي على صغرها السماء. . . أهذه نضرة الإيمان في هذه البقعة، أم ازدهار الآمال في هذه الساحة؛ أم كما قال عاكف بك: واحة نزلت من السماء لتأوي إليها الأرواح المتحرقة في البيداء؟
ودخلنا المدينة من الباب الشاميّ حيث محطة سكة الحديد الحجازية. وحططنا رحالنا في المدرسة السعودية وقد أعدّت لنزولنا. ثم سارعنا نتأهب للموقف الجليل، للساعة التي تعرج فيها الروح من الأرض إلى السماء. ذلكم المسجد النبوي في بهجة النور والإيمان، يدوّي بالمصلين والداعين والقارئين؛ ولكن الواقف إزاء الحجرة النبوية لا يرى من هذا الجمع أحداً ولا يحس من هذا الدويّ همساً. لا يرى إلا هذا الجلال ولا يسمع إلا هذا الوحي. وإنما هي وقفة يمّحي فيها الزمان والمكان فيتصل الأزل بالأبد والسماء بالأرض
يا لك بقعة صغيرة لا يدرك العقل مداها، ولا يبلغ الفكر منتهاها! يا لك حجرة يظل الفكر مسافراً في أرجائها، محلِّقاً في أجوائها، فيتطوّف في أرجاء التاريخ، ويحلق في أقطار