قلنا ونحن نتحدث عن ملكة السخرية عند (شو) ونرد إليها أكثر آرائه وأفكاره في محيط الأدب والحياة: (والسخرية في حياة شو هي ألمع اللافتات جميعاً، بل هي الإطار الطبيعي الذي يحيط بكل صورة من صور هذه الحياة، وهي في فنه نقطة الارتكاز التي يلتقي عندها خط الاتجاه النفسي المعتد من هنا وخط الاتجاه الفكري المنطلق من هناك. . وهي في حياته وفنه معاذ لك المعبر العظيم لإنسانية القلب وكبرياء النفس وأصالة الموهبة. وتضغط أنت على (زر) نفسي واحد لترسل التيار الكهربائي إلى هذه اللافتة لتصبح (مضيئة)، وتقرأ على (ضوئها) ما نحمل اللافتات الأخرى من (ألوان) نفسية. . ما هو هذا الزر النفسي الذي يضيء لافتة السخرية عند (شو)، أو ما هو (مفتاح النور) لهذه الملكة الفذة التي غطت على غيرها من الملكات؟ إنه السخط المتأصل في أعماق النفس منذ القدم على بعض القيود والأوضاع!
هذه الملكة النادرة عند هذا الكاتب العظيم، أنبتتها الوراثة وأنضجتها التجربة، وتولتها الموهبة بالعرض والتقديم. لقد ولد في مهد الفاقة فسخط، وشب في أحضان النبوغ فسخط، وتنفس في جو القيود فسخط، وبدأت حياته وانتهت وهي سلسلة من السخط المدثر بأثواب السخرية. لقد سخط على الأغنياء لأنه تذوق طعم الفقر، وسخط على الاستعمار لأنه نشأ حر الفكر، وسخط على العاجزين لأنه شجاع يؤثر الغلبة والاقتحام. . ثم أفرغ هذه الطاقة الساخطة في ذلك القالب الساخر، الساخر من شتى المثل والقيم والتقاليد!
لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو) لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقله من مظاهر الإنكار. وما هي السخرية على التحقيق إذا لم نردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطاً عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقلية مهذبة، هدفها النيل بالقلم واللسان، ومادتها