زارني منذ بضعة أيام عدد من شبان هذا الزمان فنظرت إلى ثيابهم الجميلة وتفصيلها المحبوك على قدودهم الممشوقة وتحسرت على أيامنا. وكان بينهم واحد يلبس بنطلونا قصيرا فقلت له:(أتلبس هذا عادة؟) قال: (نعم. سبور) قلت: (في أي مدرسة أنت؟) قال: (في الخديوية) قلت: (أسمع. أنا أيضاً كنت تلميذا في المدرسة الخديوية ولا أذكر إني رأيت فيها - في تلك الأيام - تلميذاً يلبس بنطلوناً قصيراً، لا أدري لماذا؟ ربما كانت الروح (الاسبور) تنقصهم في تلك الأيام، ولكني أعرف أيضاً أني في صغري كنت لا أقبل أن ألبس هذا البنطلون القصير. . . كان أخي الأكبر يأخذني قبيل افتتاح المدارس إلى محل (ماير)، وكان أشهر محلات الثياب في تلك الأيام، فيعرض على البائع أمثال هذا البنطلون فأقول لأخي: هذه سراويل لا بنطلون، وآبى كل الإباء أن أتخذها. وأصر على البنطلون الطويل فيضحك أخي ويقول للبائع:(هات له بنطلوناً طويلاً. . إنه يريد أن يكون رجلاً ويحس انه رجل، فلا داعي للتنغيص عليه). وأنا أفهم أن تلبس هذا القصير حين تلعب ولكن الحياة ليست كلها لعبا. . فيها ساعات للعمل والجد على ما أظن)
فقال أحد زملائه:(إنه لا يزال صغيراً)
قلت:(لا أدري. لقد كنت أيضاً صغيراً لما كنت أرفض ارتداء هذا البنطلون. كنت في التاسعة من عمري يومئذ. وأحسب أن من كان في التاسعة جدير بأن يسمى صغيراً. . وليس للإحساس بالرجولة وقت معين أو سن مخصوصة. . فمتى تريد يا صاحبي أن تشعر إنك رجل!)
والتفت إلى إخوانه وقلت لهم:(ليت واحداً منكم يقول لي كيف تقضون يومكم)
فترددوا، وصار واحد منهم يبتسم، وثان يفرك يديه، وثالث يتمتم بكلام غير مسموع فقلت لهم:(أنا اصف لكم كيف كنا نقضي اليوم في حداثتنا. . . كان بيتنا في ذلك الوقت عتيقا جداً، وله فناء واسع كبير فيه شجرة جميز ضخمة. وكان في الفناء (حاصل) رحيب فيه أيضاً بئر، فكنت أستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً - صيفا وشتاء - فأنحدر إلى هذا الحاصل وأدلي دلوي في البئر فأملأه وأصبه على بدني - بعد خلع ثيابي طبعاً. كان هذا