على بساط من رمل الصحراء الأحمر، وفي ثنية من ثنايا الجبل السامق نحو السماء، وفي جو رخاء يتموج في جوانبه نسيم العشية البليل، أخذ القوم مجلسهم كالعادة يسمرون ويتفكهون! انهم فتية شبوا في ظلال الخفض والرفاهية، لم يثقلهم من الدهر هم. ولم يشغلهم من الحياة شاغل، فكلهم في بيته سليل المجد، وربيب النعمة وأخو الفراغ والجدة وكانوا من العمر في طور الشباب تغمرهم الأماني الواسعة وتستخفهم الأحلام اللذيذة، فالدنيا ما زالت في نظرهم حلوة خضرة، تتراءى لهم كالعروس قد جلتها يد الماشطة الصناع، فكلها إغراء وكلها فتنة، فتمردوا على العشيرة. وخرجوا على المجتمع، وجمعوا شملهم بالصداقة، وأقاموا الإخاء فيهم مقام القرابة، وشردوا عن أهلهم إلى البيداء، حيث مجال الحرية الواسع ومراد النظر السادر، وميدان الركض الفسيح!
وكان من عادة القوم أن يسمروا في بيدائهم، وكانوا يجرون في سمرهم على نظام متبع، وحياة رتيبة، فهم في كل أمسية حول واجد منهم يسري عنهم بالنادرة البارعة، ويفكههم بالملحة الشاردة، وكثيرا ما ينثني بهم نحو الماضي المنصرم، فيقص عليهم من ذكرياته الحلوة الطيبة، ومصادفاته الغربية
وها هم أولاء قد أخذوا مجلسهم على عادتهم في نظام واجد وأنصتوا. انتصب ذاكر منهم كان عليه حق الجماعة، ومن واجبه (حديث السمر) في تلك الليلة فقال: لقد انحدرت مع قومي فيما سلف من الزمن إلى بغداد، فاكترينا داراً شارعة على أحد الطرق المعمورة بالناس، وكنا في عيشنا نجري على طبيعة الدهر من الرخاء والبؤس، فمرة يغمرنا اليسر والرغد وطوراً يشملنا العسر والفاقة! لله تلك النفوس الطيبة يا إخوان؛ لقد كنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه؛ ولقد يبقى الواحد فينا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، وانحدرنا إلى اسفل الدار،