أبدى لنا بعض الأدباء الأفاضل شكاً في وصفنا للبحتري من حيث غلبة الصناعة على العاطفة في شعره واختلاط الحقيقة بالخيال في تلك الصنعة مما جعل بعض القراء يغترون بها ويحسبونها عاطفة. ولم نكن نريد انتقاص البحتري إذ عددناه ممثلاً في صناعته، يمثل العواطف المختلفة تمثيلاً متقناً؛ ولم نُرَجِّح صحة رواية كتاب الأغاني عن طريقة إنشاده وعن طلبه الاستحسان من الحاضرين وزجرهم إذا لم يُظْهِروا الإعجاب، إلا لأن ذلك يفسر تناقض ما يمثل من العواطف والأحاسيس في شعره، كما سنوضح، ويتفق وطريقة الصناعة اللفظية التي ينتشي فيها الصانع بما يقول، وقد أغفلنا الإشارة إلى ما يروى عن بخله إذ لا دخل لذلك بفنه، وكذلك أغفلنا ما روي عن قلة اكتراثه بثيابه ونظافته. . . الخ.
والحقيقة أننا نعجب بصناعة البحتري إعجاباً كبيراً، لكن الإعجاب لا يمنع من الوصف والدراسة النفسية والسيكولوجية. وربما أخذ علينا بعض حضرات الأفاضل قولنا أن رثاءه للمتوكل كان صنعة وإننا نشك في قوله:(أدافع عنه باليدين. . . الخ). وقد رفضنا ما قرانا في بعض الكتب من رواية لعلها رواية عدو أو رواية مازح أراد أن يداعب قوله:(أدافع عنه باليدين الخ). فقد قيل أنه اختبأ أثناء مقتل المتوكل. ويكفي أن نقول أن الفتح ابن خاقان هو الذي حاول أن يدافع عن المتوكل بيديه وبجسمه فقتله الفاتكون وهو من زعماء الترك مثلهم، فما كانوا يتعففون إذا عن قتل البحتري إذا صح أنه دافع عنه باليدين أن لم يكن لغضب منه فلكي يصلوا إلى المتوكل. ولم نسأ أن نذكر أنه مدح المنتصر بعد أن هجاه في رثاء المتوكل، ومدح زعماء الفاتكين وعرَّض بهجاء المتوكل في مدحه للمنتصر كما سنوضح، ومدح المستعين الذي خلف المنتصر والذي كان منافساً للمعتز بن المتوكل الذي مدحه البحتري في رثائه للمتوكل ورجاه للخلافة، ومدح ابن المستعين ورجاه للملك أيضاً. كل ذلك والمعتز أسير حبيس، ثم بعد أن ثار الجند الترك على المستعين الخليفة واضطروه أن يخلع نفسه وفتكوا به هجاه البحتري بقوله:
وما كانت ثياب الملك تخشى ... جريرة بائلٍ فيهنَّ. . . ري
وكان الغدر والخيانة والانتقاص أموراً شائعة في ذلك العهد. وفي رثاء المتوكل يهجو