للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فلسطين. . .]

بين حديد الانتداب الذي يأكل الأجسام، وذهب الصهيونية الذي يأكل الأرض، يعيش العربي في فلسطين عيش المحكوم عليه بالقتل أو النفي، إذا سلم له بدنه، لا يسلم له وطنه؛ وما هذه الصرخة التي صرخها فصكت المسامع الصم، وبلغت الضمائر الغلف، إلا العارض المنذر في الحي بالضر يلُوعه، أو الخطر يَرُوعه، أو الظلم يحيق به!

وأن الصرخة للحياة تسلب، أو للديار تغصب، لهي الصرخة التي يدوي فيها صوت الحق، ويمتزج بها أنين العدل، ويضطرب فيها احتجاج الإنسانية على قوم اتخذوها حِيالة لإستعمار الأوطان، ووسيلة لاستعباد الأمم

كانت البربرية في العهود الخوالي تغزو سفارة الوجه، وتنهب ظاهرة اليد، وتقول صريحة العبارة، وتعمل واضحة الغاية؛ فجاءت مدنية اليوم فوضعت اليد الحمراء في القفاز الأبيض، والفريسة بمعاهدات الصداقة ومؤتمرات السلم، وصاغت معاني القوة والغصب في ألفاظ القانون ومصطلحات العلم، وأشفقت على شعور الإنسانية فسمت الاسترقاق تمدينا، والاغتصاب انتدابا، والحماية وصاية؛ وعمَّقت أغوار القلوب السياسية فلا تعرف لماذا حرمت بيع إنسان لإنسان، وحللت بيع شعب لشعب!

هذه أمة من أسبق الأمم قدما في المدنية، وأعرق الشعوب نسبا في الحرية، تسير على دستور رفيع الدعائم أثيل المنبر، ولم يمنعها عرفها الموروث ولا شرعها القائم أن تبيع فلسطين العربية جهراً لنفايات اليهود، وليس العرب من مماليكها، ولا فلسطين من أملاكها! ثم تسخِّر لضمان هذا البيع الباطل قوة الحكومة وسلطان الدستور، وتمثل تحت العلم البريطاني وعلى مواطن المسيح أروع مآسي العدالة!!

سلطوا على البلاد الجوع وأرسلوا من ورائه الذهب! فكأنهم قالوا للعربي البائس: أما الوطن ولا حياة، وأما الحياة ولا وطن! فأما الذين قهرهم الفقر وبهرهم المال فقد باعوا أنفسهم وأهليهم بيع الغبن للدخيل، وأما بقايا السيوف وأحفاد الفاتحين فآثروا أن يدفنوا أعزة في ثراها العزيز، على أن يتركوها أذلة لليهود والإنجليز، فدافعوا الأزمة بالصبر، والانتداب بالعزم، والصهيونية بالمقاطعة، وأروا هذه القوى الثلاث التي حالف بينها الباطل أن العربي الذي غزا العالم ولا يمسك رمقه إلا قبضة من سويق وشفافة من ماء، لا يُخذل من قلة، ولا يفشل من جوع!

<<  <  ج:
ص:  >  >>