للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[قصة مصرية]

حكمت المحكمة!. . .

عم الأسف رجال القرية ونساءها عندما علموا بوفاة ابنة عبد الدايم المسعودي (وهو من الأعراب الذين يسكنون الخيام في أرضهم) فأما الرجال فقد أشفقوا على عبد الدايم لأنه فقدها وفقد أمها في عام واحد، فلم يبق له من بعدهما من يرعى غنمه ويعنى بشئون بيته. وأما النساء فقد ذكرن أن سلمى ماتت فجأة فلم تمرض كغيرها، وأنشأن يترحمن على شبابها وحلو ابتساماتها. . . وتدافع الأهالي وراء نعشها يشيعونها إلى مقرها الأخير. ثم أقبلوا على والدها يعزونه بكلماتهم المحفوظة وهو يرد عليهم بمثلها، فهو (عظم الله أجره) وهم (شكر الله سعيهم) ورجع الجميع إلى بلدتهم ليقيموا ليالي المأتم الثلاث وليسمعوا ما تيسر من القرآن، وعند الغروب خرج أهالي كفر المعداوي كل (بطبليته) إلى المأتم وعليها عشاؤه الممتاز استعدادا لإطعام المعزين من البلاد المجاورة، وجلسوا بعد الصلاة، وقد تنحنح المقريء إيذانا بقراءة القرآن، فأنصتوا وأطفئوا سجائرهم ثم بدأ القارئ بصوت منخفض غير مسموع تدرج به قليلا قليلا حتى أصبح يغطي على همس بعضهم بالتحية لبعض، ويخفي أحاديثهم عن الشئون الزراعية (وقد بدءوها بعد أن بدأ الفقيه بقليل) بنغمات يطرب البعض لها فيمص ويردد لفظ الجلالة اعتبارا واستحسانا. أما عبد الكريم الدايم فقد كانت تبدو على سيماه علامات التفكير العميق والحزن الدفين، ولكنه كان يتجلد للقادم فيسلم عليه ويتقبل تعزيته شاكرا.

وانقضت ليالي المأتم. . . . وتلفت عبد الدايم حوله فلم يجد إلا غنمه ونفسه فقبع في خيمته لا يزور أحدا، وإنما كان يزوره من فاته العزاء في حينه. وانتقد أهل القرية فيما بينهم إبراهيم أفندي لأنهم لم يروه في المأتم، ولكنهم علموا بسفره إلى القاهرة منذ أيام فلما عاد لحظوا أنه لم يقم بواجب التعزية لعبد الدايم، فبرموا بغطرسته واستكباره، ولكن ما حيلتهم وهو ابن العمدة!

مرت الأيام بعد ذلك سراعاً فأوشكت بفعلها أن تصرف أذهان الناس عن مصاب عبد الدايم لولا أنهم رأوا عجبا. رأوه وقد طوع للموسى أن تجذ شاربيه الطويلين وتعبث بلحيته المستعصية حتى أسفرت ذقنه بعد احتجاب طويل، مع أنهم يعرفون في الأعراب تمسكهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>