بشواربهم ولحاهم، ولم ينسوا مبالغة عبد الدايم في هذا، فلم يبق إلا أن الحزن قد أساء إلى عقله فحسن له جنونه أن يظهر على هذه الصورة الجديدة.
وذهب الحاج عبد المطلب وهو أحد مشايخ البلد إلى (دوار) العمدة في المساء جريا على عادته فوجده جالسا في عدد من حاشيته يتحدث إليهم في السياسة عن مصطفى كمال وكيف طار وراء الإنجليز، ويعرج على الاقتصاد فيعلل لهم نزول الجنيه الإسترليني بتعليلات ما أنزل الله بها من سلطان. ولما انتهى العمدة من حديثه اتجه بنظره إلى الحاج عبد المطلب وسأله عن جديد، فأنشأ شيخ البلد يسرد له صنوفا من الأخبار ويتبسط في شرح تفاصيلها إلى أن قال وما رأيكم في عبد الدايم المسعودي؟ يظهر أن الرجل قد جن بعد وفاة ابنته، ولم يكن العمدة على علم بما جرى للحية عبد الدايم فهز رأسه من اليمين إلى اليسار هزات سريعة مستفسراً، وتسابق الجميع إلى إجابته فحدثت جلبة وضوضاء نفذ لهما صبر العمدة فوصفهم بوصف البرابرة: واحد يسمع ومائة يتكلمون، وأشاح عنهم بوجهه إلى الحاج عبد المطلب يسأله عما جرى فلما أخبره بأن عبد الدايم أصبح حليق الذقن والشارب تردد في تصديق ذلك ولكنهم أكدوا له صحة الخبر فرفع حاجبيه في عجب ودفعه حب الاستطلاع إلى أن يأمر شيخ الخفراء باستدعائه.
وجاء عبد الدايم بعد قليل فدهش العمدة عند مرآه وسأله عن سبب حلقه للحيته فأجاب ساخرا إنه رأى واحدا من أهل القرية يضحك منها فآثر أن يزيلها. وقابل أحد الجالسين سخريته بمثلها فقال:(وكيف استغنيت عنها مع أنك كنت تمسح فيها يديك بعد أكل الثريد؟) فتجهم وجه الأعرابي وجحظت عيناه وقال (لما اتسخت أزلتها) فقال العمدة (وما ذنب شاربك؟) فأجاب (صغرت في نظر نفسي فحلقته) وخرج مغيظاً محنقاً. . .
وكان بالمجلس شيخ معروف في القرية بالنباهة ودقة الملاحظة فقال للعمدة (إن لم تخني فراستي فلا بد أن أحدا اعتدى عليه اعتداءاً خطيراً أقسم بعده، كما هي عادة بعض الأعراب، ليحلقن ذقنه وشاربه تشبها بالنساء حتى يأخذ بثأره). فأخذت هذه الملاحظة مكانها من نفوس الحاضرين وصار كل منهم يعلق عليها بما يؤيدها، أما العمدة فقد همه الأمر وحسب لتهديد عبد الدايم حسابه، فهو داهية شديد البأس وتداول الأمر مع مشايخ البلد فأفهمه الشيخ عبد المطلب (وكان على جانب من العلم) أن من واجبه العمل على منع