شهدت من كثب ذلك المجلس في مقهى، ومن عجب أن تقع عيناي على مجلس ظريف في مثل ذلك المكان. أقول ذلك وإن عجب القارئ لقولي؛ على أني أرجو منه المعذرة، فأنا أكره المقاهي حتى ما أطيق الجلوس فيها إلا لضرورة. ولئن أنكرت وجود مجلس ظريف في أحدها فمرد ذلك إلى جهلي بها لا ريب في ذلك. . . ولست أدري لم أسأل نفسي أبداً كلما مررت بمقهى: أيتفرج الجالسون فيه على السابلة، أم هم أنفسهم صنف من المعروضات يتفرج عليهم المارة فيما يتفرجون عليه من معروضات الشارع؟ أما عن نفسي فأنا أتفرج دائماً على هؤلاء الجلوس ضاحكا؛ وكم يذهب خيالي في تصويرهم لي مذاهب لن أطاوع قلمي في ذكرها
ذهبت في المساء أطلب في أحد أطراف المدينة فملت إلى مقهى هناك كاد يكون خالياً، وقد اجتذبني ما بدا لي من هدوئه. وجلست وحدي في ركن من أركانه أمني النفس بجلسة تعيد لي خيال منعزلي في القرية؛ ولكني لم أكد أستشعر الهدوء حتى أقبل جماعة لم أشك أنهم من طالبي الهدوء مثلي. وآية ذلك أنهم كانوا يضحكون في جلبة شديدة، ويقطع بعضهم على بعض الحديث قبل أن يأخذوا أماكنهم! ورأيتهم جلسوا في نصف دائرة أمام واحد منهم جعلوا له الصدارة، وقد دل مظهره على إنه جدير بهذه الصدارة. والحق لقد كان في مجموع شكله يخيل إلي إنه نكتة تمثلت بشراً!
وبدأ الحديث أو قل استمر، فهم لم يمسكوا منذ رأيتهم مقبلين. وكأنما اعتزم هؤلاء أن يضحكوا أكثر ما يستطيعون من الضحك كما لو كانوا واثقين أن هذه آخر فرصة للضحك في حياتهم!
كانوا إلا واحداً أو أثنين قد جاوزوا الأربعين بقليل كما تراءى لي. أما كبيرهم فأحسبه كان يحبو للخمسين من عمره المبارك، وكانوا جميعاً يشتركون في صفة واحدة؛ ذلك أن عليهم طابع الديوان، فما تلبث العين - ولو بغير منظار - أن ترى فيهم نفراً من هؤلاء الذين يتربعون أمام المكاتب أثناء النهار وقد ارتسمت على وجوههم إمارات الجاه واتضحت دلائل الحكومة