ودار حديثهم أول ما دار حول (عزومة) كانوا خارجين منها لتوهم، فلم أسمع إلا النكتة تتلو النكتة. ولقد غابت عني لسوء حظي أكثر هاتيك النكات فيما كان ينطلق من أفواههم من قهقهات عالية متواصلة! ورأيتهم يرسلون ضحكاتهم العريضة قبل النكتة وبعدها، فما تنفرج شفتا زعيمهم حتى تنبعث الضحكات مجلجلة من بين شفاههم، وإن لم يسمعوا ما يقول. فلقد كان يضحك الواحد منهم أحياناً ملء شدقيه، ثم يميل على جاره يسأله: ماذا كانت النكتة؟ وكانت تسمج بعض النكات، ولكن الضحك يظل على حاله من الشدة، حتى لا أدري أيحمل هنا على المجاملة أم أن سخف النكتة إذا اشتد قد يكون في ذاته باعثاً من بواعث الضحك منها؟ على أنني رأيت للمجاملة هنا شأناً كبيراً، فكل من هؤلاء يضحك لكي يضحك لقوله الآخرون بدورهم، وإن جاوز في السخف أبعد حدوده. . .
ومن غريب أمر هؤلاء الظرفاء أنهم لم يتورعوا عن ذكر اسم مضيفهم المسكين أكثر من مرة، ولم يتركوا شيئاً مما قدم لهم من الطعام، ولا مما رأوه من متاع بيته إلا جعلوه موضعاً لظرفهم وقلبوه على أوضاعه جميعاً، فهذا زفت مجسم سمي (بالكفتة)؛ وهذه (الفتة) كان ينقص أن تقدم في طست الغسيل؛ وهذا الصنف جيء به من (المسمط)، وهذا الخبز سيسأل عن تقديمه لهم بين يدي الله، أو ذلك البرتقال من (سوق الكانتو) وتلك الأطباق والملاعق لاشك وقف عزيز من أوقاف المرحوم جده. . . وأنه إذا أراد أن ينتقم غداً من الرئيس فلان فليس أبلغ في الانتقام منه من أن يدعوه إلى مثل هذه (الأكلة). . .
وليتهم استمروا فيما هم فيه، ولم يخرجوا منه إلى استعراض الكثير غيره من أعراض الناس في مجلسهم الظريف، وللحديث شجون كما يقولون، وليس يبالي هؤلاء القوم في ساعة (حظهم) إلى من يتطرق الحديث، ولا أي موضع يتناول
وشبعت نفسي مما طلبت من هدوء، فانصرفت مسروراً برؤيتي هذا المجلس الظريف؛ وأنا أقول في نفسي كم يوجد من أشباه هذا المجلس الظريف ونظائره في الطبقات الأخرى من المجتمع وفي غير أركان المقاهي من النواحي، فما تلك المجالس إلا براهين قاطعة على أننا قد بدأنا نأخذ أنفسنا بالجد من الأمور، وأننا إذا لهونا فإنما نحسن اللهو كما نحسن الجد في هذه الحياة.