للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[دراسة شاعر]

جوفري شوسر

للأستاذ أحمد الطاهر

إذا أنست لهذا الشاعر وتذوقت شعره، فإنك واجد فيه صورة ناطقة لبلاد الإنجليز في العصور الوسطى، أو في القرن الرابع عشر الميلادي. وأجمل ما في هذه الصورة أن (شوسر) يمثل بأسلوبه البارع - الذي وصفنا في مقال سابق - نظرية اجتماعية أخلاقية، تتلخص في أن الغرائز الإنسانية باقية كما هي على مدى الدهر، لا تتغير ولا تتحول، وهي سواء في الناس جميعاً، وأما ما يكتنفها أو يخفيها من التخلق أو اكتساب العادات أو ما إلى ذلك، فما هو إلا عرض لا يتصل بجوهرها. خذ مثلاً رجال الدين - كما أراد شوسر - أولئك الذين هاجمهم في عنف وشدة، تر أنه لا يحفل بما يبالغ فيه بعضهم من إبداء النسك والتبتل والتظاهر بالتأبد والتنطس، وإنما يعمد إلى المسوح السوداء فيرفع إسدالها، وإلى المسابح فيقطع أوصالها، ثم يبرز لك الرجل من وراء ذلك إنساناً ككل الناس: يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويضطرب في كل شأن من شئون الحياة، كما يضطرب سائر الناس. فينزع إلى الهدى والرشد أحياناً، وإلى الغواية والعشوة أحياناً. والشاعر حين يتناولهم بقلمه، لا يصدر عن ضغينة في نفسه، ولا عن ميل إلى التندر والتظرف، ولا عن استخفاف بالدين، كلا، بل لقد كان هو من أكثر الناس تديناً وإغراقاً في الصلاح والتقوى. إنما هي أسباب أخرى لو سمعها اليوم (شوسر) لم يرض عنها، أو لم يعترف بها: فعصره كان عصراً تغلي فيه مراجل الثورة النفسية، يؤجج أوارها عناصر أربعة متنافرة متدابرة: الكنيسة والشعب والبرلمان والقصر.

ففي القصر إدوارد الثالث ثم ريتشارد الثاني يرهقان الشعب بالجبايات والإتاوات، ويسرفان في التمكين للأشراف وأصحاب الضياع من إذلال الدهماء عبيدهم ومواليهم يبتزون جهودهم ويستغلون نشاطهم، ولا أقول أموالهم فما كان للعبيد والموالي أموال ولا أملاك. والبرلمان يأنس في الملك ضعفاً وخوراً في حين من الأحيان، وجبروتاً غاشماً في حين آخر، وطراءة في الشباب في عهد من العهود فيحفز للنضال حقه المهضوم وسلطانه المكلوم وتغريه كثرته فيثور ثم يناوئ ثم يعتدي ثم يمالئ. كل ذلك على حساب الشعب؛

<<  <  ج:
ص:  >  >>