سأل نفسه وهو يشهد ليلة تنطوي وفجراً يبزغ: أيمكن أن تمر تلك الليلة على إنسان كما مرت عليه؟. . . وسمع جواب نفسه منبعثاً من أعماقه: محال. . .!
وكانت ليلة عيد. . . ولا يذكر أنه أحس القفر في حياته كما أحسه في تلك الليلة، ولا يذكر أنه أنكر دنياه كما أنكرها في تلك الليلة، ولا يذكر أنه استشعر الوحدة والغربة والفراغ كما استشعرها في تلك الليلة. . . لقد كان يشم في كل شئ حوله رائحة الموت، الموت الكريه البشع الذي يتراءى للأحياء في الليالي السود، ويلف الآمال في أكفانه، ويهيل على جمال الحياة أكوام التراب!.
وأشرقت شمس العيد ترسل ضياءها إلى قلوب الناس إلا قلبه. . . لقد بقي وحده في الظلام، ظلام الأماني التي ذوت، والفرصة الكبرى التي انطوت، والدنيا التي ذهبت إلى غير معاد. ولأول مرة منذ سنين، شعر بدافع قوي إلى البكاء، وحاول أن يبكي ولكنه لم يستطع. لقد تجمدت الدموع في عينيه ثم تحدرت إلى قلبه قطرات: فيها من دفء عاطفته، وفيها من وقدة وجدانه، وفيها من لوعة حرمانه. . . وفيها من وهج أساه!.
ونظر إلى السماء نظرة من يبحث عن شئ عزيز قد ضاع منه، أو نظرة من يسأل السماء سؤالاً لا جواب عليه: أين يا رب يجد الصبر وينشد السلوة ويلتمس العزاء؟ كل شئ قد انتهى، وكل جلد قد انقضى، وكل زاوية من زوايا النور قد أغلقتها يد الزمن. . . وها هو يمضي في الحياة وحيداً بلا رفيق، وغريباً بلا حبيب، وجرحاً تخضبت معالم الطريق من فيض دمه!.
إنه ليذكر كيف قضى ربيع العمر منطوياً على نفسه، بعيداً عن الناس، تصلي أفكاره في محراب الشجن. . . ويذكر كيف كان يختلس البسمة اختلاساً، ويغتصبها اغتصاباً، وترف على شفتيه رفيف الشعاع الحائر ترسله على جوانب الأفق شمس غاربة!. . . ويذكر كيف أتى عليه يوم انقلب فيه من حال إلى حال: ابتسم للحياة من قلبه، وأضفى عليها من روحه، وقبس لها من حبه، وأصبح إنساناً غير الذي كان.