إلى هنا انتهينا من بيان أثر نظرية السعادة الفارابية في رجال المدرسة الفلسفية الإسلامية وفي طائفة من المتصوفة الذين تشوبهم روح فلسفية. والآن يجدر بنا أن نبين ما إذا كانت هذه النظرية قد أثرت في الصوفية الآخرين المعتدلين أو المحافظين إن صح هذا التعبير. وإن مهمتنا في هذه المرحلة أشق منها في سابقتها، لأنه ليس بغريب أن تُفترض صلة بين فلاسفة وصوفية متفلسفين. أما محاولة إثبات علاقة بين الفلسفة والتصوف البحت الذي يرى من واجباته الأولى محاربة الفلاسفة والمتفلسفين فهذا أمر عسير، ومهما يكن فسندرس هذه النقطة بنفس الطريقة والمنهج اللذين درسنا بهما النقط السابقة مبينين أولاً السر فيما ذهبنا إليه من تقسيم الصوفية إلى معتدلين ومتطرفين.
لم يكن الإسلام فسيح الصدر للرهبنة المسيحية والتقشف الهندي، وكثيراً ما دعا إلى العمل للدنيا والتمتع المباح بلذائذ الحياة:(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فهو بعيد إلى حد كبير عن طريقة القسس والرهبان في بيعهم وصوامعهم وسنة فقراء الهند وعبادهم في ألمهم وعذابهم المستطاب. ومع هذا فكل دين كائناً ما كان يشتمل بعباداته ونصائحه على قدر من التصوف لا يحتمل الشك. وسبق أن أشرنا إلى أن هناك عوامل كثيرة وتعاليم مختلفة: هندية وفارسية وإغريقية ومسيحية أثرت في تكوين التصوف الإسلامي، ولكن يجب أن نضم إلى هذه المؤثرات الخارجية عاملاً آخر داخلياً وجوهرياً، ألا وهو الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأعمال الدينية. ولو لم يكن في طبيعة الإسلام ما يسمح بشيء من التصوف ما وجد التقشف الهندي والرهبنة المسيحية إلى المسلمين سبيلاً. وقد دار نقاش طويل بين المستشرقين متعلق بأثر القرآن في تكوين نظريات الإسلام التصوفية، وهم في هذا فريقان: فريق ينكر هذا الأثر وآخر يثبته. وفي مقدمة الفريق الأول يجب أن