للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يذكر البارون كارادي فو الذي يزعم (أن القرآن لم يكن مطلقاً الكتاب الذي استطاع مبدئياً أن يجتذب الصوفية نحوه كثيراً، لأنه متعلق جداً بالأمور الخارجية وليس فيه الحنو الداخلي والروحي حقيقة). وعلى عكس هذا يقرر أستاذنا ماسنيون، وبجانبه الأستاذ مرجليوث، (إن في القرآن البذور الحقيقية للتصوف. وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلال عن أي غذاء أجنبي). ونحن نعتقد أن القرآن أعان الصوفية كما أعان المتكلمين والفقهاء على نصرة آرائهم. فإن كتاب الله في العالم الإسلامي قاموس للنحاة واللغويين، ومذهب فلسفي للباحثين والمفكرين، وذكر يتقرب به المبتهلون والمتضرعون، ولائحة يرجع إليها المشرعون، وعقيدة يحتج بها المتكلمون. وكثيراً ما حاول أصحاب الآراء الجديدة والنظريات الحديثة الاحتجاج به والاعتماد عليه، بل إن هؤلاء أحوج إلى نصرته من غيرهم فأن آية منه قد تقرِّب آراءهم إلى من حولهم وتكسب نظرياتهم سلطاناً دينياً وصفات شرعية. فالصوفية إذن لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم أفادوا من القرآن بقدر ما أفاد غيرهم من الباحثين. وأما ما في هذا الكتاب الكريم من حنو ورقة وعطف وشفقة فأمر لا يقبل الشك. ويدهشنا أن البارون كارادي فو لم ينتبه إليه؛ ذلك لأن القرآن لا يخاطب العقل وحده بل يناجي كذلك القلب؛ ولا يعني بالظاهر أكثر من عنايته بالباطن. وكم فيه من تحاليل شائقة وأساليب جذابة تصف أحوال النفس وأحاديثها الداخلية. وكيف يتصور أن يخلو كتاب سماوي من مناجاة القلوب والأرواح وهو إنما أعد أولاً وبالذات للجماهير التي تحس قبل أن تفكر وتسير غالباً وراء العاطفة والوجدان. وإنه لجهل بطبيعة الأديان أن يقال إن تعاليمها مصوغة في قوالب منطقية ولغة عقلية بحتة. ويطول بنا البحث لو حاولنا أن نسرد هنا كل الآيات القرآنية المتصلة بالقلب والروح والتي استطاع الصوفية استغلالها في نواح كثيرة، ونكتفي بأن نشير إلى دراسة تحليلية عميقة أبان فيها الأستاذ ماسنيون الألفاظ الصوفية المقتبسة من القرآن الكريم. فمصطلحات المتصوفة فضلاً عن نظرياتهم ترجع إلى أصل في كتاب الله. وغني عن البيان أن حديث المعراج وقصة يوسف كانا أساساً لنظريتين هامتين من النظريات الصوفية وهما الجذب والحب. والعلم اللدني الذي يتباهى به أهل الكشف والواصلون صورة مأخوذة عن الخضر عليه السلام الذي قال الله في شأنه: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً). وعلى هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>