يعي التاريخ مشهداً يذكره وسط الغموض والاضطراب اللذين لفا مدينة (كان) الفرنسية كما لفّا العالم بأسره في طليعة عهد الثورة الكبرى: أما مكانه فساحة مجلس (كان) النيابي، وأما أبطاله فرجل وفتاة أوشكا أن يفترقا بعد لقاءهما النائب باربارو وشارلوت كورداي ((دارمان) كما كانت أسرتها تلقب قبل الثورة التي ألغت رتب النبل وألقابه) كانت فتاة فارعة العود في عامها الخامس والعشرين، يتلألأ محياها جمالاً ووداعة؛ وكانت على أن ترحل إلى باريس في أمر ما، ولهذا تقابلت وباربارو فحملها توصية وتقدمة إلى صديقه الباريسي النائب دوبريه ذاكراً في خطابه (إنها لجمهورية الهوى من قبل أن ينادي بالثورة منادٍ، وإنها لم تكن في حاجة أبداً إلى الحماسة، ففي قلبها منها الكفاية). (أما الحماسة في رأيها فهي تلك العاطفة التي تدفع بالمرء إلى بذل روحه طائعاً في سبيل بلاده).
وقبيل ظهر الثلاثاء التاسع من شهر يولية من العام الرابع للثورة، اتخذت شارلوت مكانها من عربة بريد (كان) الراحلة إلى باريس مزودة بخطاب باربارو وبقليل من متاعها الخفيف. لم يكن في وداعها - كسنة السفار - أحد يتمنى لها رحلة طيبة موفقة، فهي قد بيتت عزيمتها بينها وبين نفسها مخلّفة لأبيها رقعة تفضي إليه فيها بأنها في طريقها إلى إنجلترا، وأنها ترجو أول ما ترجو أن يغفر لها فعلتها وأن ينساها إلى الأبد.
وزحفت عربة البريد بحملها، وكأنما لازمها نعاس ملح، ما زال يدفع بها وئيدة مهومة حتى بلغت جسر (نيلي)، وحتى لامست عجلاتها ثرى باريس في ضحى يوم الخميس ١١ يولية، حيث شهدت عينا شارلوت مدينتها المنشودة تطالع السحاب بقبابها العديدة السوداء وفي فندق البروفدانس بشارع دي فيو أوجستين احتجزت لنفسها غرفة سرعان ما احتواها فراشها، وسرعان ما راحت في سبات عميق بقية النهار وطيلة الليل، فلم تستفق منه إلا وشمس الجمعة قد علت في الأفق.