(في حمى المسجد الأموي، وفي ظلال سوره العالي، بين مثوى البطل الأجل الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاسية الأثرية، وبين المدرستين القديمتين السميساطية والاخنائية، تقوم المدرسة الجقمقية الخالية المائلة - التي بناها سنجر الهلالي - وجددها الملك الناصر سنة ٧٦١ هـ ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنسبت أليه).
ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة، وذكرت ما أودعتها من عواطف، وما تركت فيها من حياتي، إلا تلفت القلب، وصفى الفؤاد، واعتجلت في النفس خواطر، وانبثقت للعين صور، أقر بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً، ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقا من النور وأوسع من الزمان. . . ولا أجد إذا أردت وصفها إلا هذا الحديث المعاد، وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرئ القيس الذي وقف واستوقف، وبكى واستبكى، يعيدونه ويرددونه، وهو ما يزال ومعناه جديد في كل قلب، سريع إلى كل لسان - فأسائل هذه الجدران المائلة، وأخاطب. . . هذه الغرف الخالية. . . وآه! لو تصف هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدث المباني! وأنىّ؟! وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!
هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها، وتتخذ لكل يوم ميزانه. فيهون عندها اليوم ما عز بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه، وقبلا كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا، أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه اثر من أنفسنا، وفيه بقايا من أعمارنا!
لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه، إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلا وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت على هذا الهوان، وقد كانت بالأمس نصف دنياي. وهل دنيا التلميذ إلا داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسي: في الصباح حين أتوجه أليها، وفي النهار حين أكون فيها. وفي المساء حين أعود منها، قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي،