وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة ١٩١٨ تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطرح آراءه، وأهزأ بأفكاره. وأحقر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنس حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان، على حين تبدل العقول والأجسام؟
سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة!
سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا اليه، ويتسلوا بأذكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لاحيا فيه، وأفرّ إليه من حاضر امقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السن ازداد إيغالا في عزلته، وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل نارا، نارا من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوما، وتفتح عليها من جهنم أبواباً، وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً
. . . حتى غدوت وقد رث حبلي وتصرم ألاخيوطا، طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقي سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في ليالي الطوال مؤنس أو سمير، إلا هذه الكتب التي مللتها وملتني، وصارت مودتنا تكلفاً وحديثاً مملولاً. وهذا الماضي ازداد كل يوم تعلقا به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه حقاً ولا أجرؤ على التفكير فيه
لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته عليّ أجد في ثيابه عبقاً من ازاهير الماضي الحلو الذي سر بنا جميعا يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذ، فجسنا خلال رياضه، واوغلنا في دروبه المعشبة، ومسالكه التي فتح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرف على الكهولة، وهدته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي، عاجلها الخريف الظالم ببرده وعواصفه. . . أحاول أن أرى من ورائه