طلعة (ذلك) الصبي الفرح أبداً، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يوماً والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه، فإذا لم أرها أبت أجر رجل خائب فجع في أعز آماله، وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر، أو معلب من ملاعب الطفولة، فتشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، عليّ أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يوماً ونسيتها.
ولذلك وقفت اليوم على (الجقمقية) ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل، كما يسرق النباشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدعا لي ألا كل تافه حقير، فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟!
هذه هي المدرسة التي أودعتها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها، ماثلاً بنيانها؛ وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من دارى ورائحاً منها إليها؛ وهذا هو (الأموي) العظيم الذي كنا نعرج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشية، وما بيننا ويبنه إلا أن نخرج من باب المدرسة فيدخل من بابه، نغافل (الحسكي) ونقفز، فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف، حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا، وذهب الحافز لنا على اللعب، عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو (الأموي) لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في سعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه، ومضى الساكنون، وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غير الأموي، فلا دروسه تلك الدروس، ولا علماؤه أولئك العلماء. ولا جوه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص تخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات، ولا حانات ولا ملهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها، والرجل لأهله، والعلماء عاملون بعلمهم، مطاعون في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا، ولا يتخذونه تجارة. فيا أسفي على دمشق التي