ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة، والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولا كَلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين، فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصى، وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة ثم نرجع متفقين، وأن نتلهى عن الدرس بقراءة قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال، وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه، فشهود خيال الظل (كراكوز) وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً. وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروف) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان.
فأين أيامنا في هذه المدرسة، وهل تعود هذه الأيام؟ أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس، الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً؛ ستين عاما وهو دائب على عمله العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالا صغارا، فيردهم إليه شباباً متعلمين، يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم، ومن إيمان في صدورهم، فتعلم من الولد وأبوه وجده. أي والله وهذه سجلات مدرسة فسلوها تنبئكم، بذلك هو الإمام الشيخ عيد السفرجلاني.
هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟ أين رفاقي فيها؟ أين من كان يجمعهم مقعد واحد، وكانوا سواء في كل شيء لا يميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس، أو ينال ثناء من أستاذ. وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدم في التلاميذ. وكان الشيخ يتخذ منه مثلا مضروبا لأبناء الأغنياء، ويبشره بالمجد والمال والرتب، وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك.
رحمك الله يا شيخنا فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلا في هذا. تعال انظر تر الدهر قد ضرب بيننا، ففرق الإخوان، وشتت الخلان، فتفرقوا في أفاق الأرض، وأنتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاً، وسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية، ومشى قوم على الورق والفل والياسمين، وحازوا المال والمجد والرتب، ولن اسمي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك!