للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فن يستيقظ]

للأديب نوري الراوي

فهم العربي جمال الكون بكل حواسه فأطلقه شعراً يفيض باختلاج حسه القصيَّ، ثم أنفذه نغماً في صميم الليالي الأندلسية البيضاء. . . وعاد فمات في عتمة الغسق التركي، فكانت بقيته اليوم بين حشرجة الماضي ويقظة الحاضر نسيساً في نفس مجروح، ونسمة من نسماته الندية تنطلق اليوم بعد فترة جمام كادت تطمس على خصائصه الأصيلة فتحيلها إلى العدم أو النسيان، ولكن الله الذي حفظ الروح العربية الإسلامية دهوراً طوالاً أراد أن يوقظها في صفوة أبنائها اليوم فكان ما أراد لله

وشهدت العصور الحديثة أكمل القوى في ثورة تشمل الروح والجسد، يدعمها الإيمان ويشدها الحق وتظللها الحرية، فأدركت أن وراء هذه الأنفاس المفهورة نفساً يريد أن يكون لهيباً من جهنم، وشواظاً من بركان

ولكن الزمن الذي اتسع لأمجاد الفن العربي في مختلف عصوره، زحفته المدوية، فطوى بين أثنائه أياماً كانت شجىً في الحلق، ليلبس ثوب هذا اليوم الحديث في صورة من التأريخ. إن وراء المجد الذي كان بالأمس، قوة من المعنى أدارت رحاه، ونواة من الفن حفظت نوعه، فمضى يخط تاريخه في جلال الظافر وكبريائه، حتى دهمته الذئاب الدخيلة! فعبثت بروحانيته كما تعبث الريح بالرمال وأجهزت على فنيته فحطمتها

وبين عصرين من عصور التاريخ، تقلبت فيها الأحداث، وتخبطت فيها الحظوظ، وتعاقبت على صفحاتها الأيام، مني الفن العتيد بخطوب جسام كادت تشرف به على الهلاك. . . ولكنها الروح التي لزمته في صحاري الحجاز ودللته في بلاد المجد المفقود وهدهدت أعطافه على ضفاف بردي والفراتين عادت فاندفقت بين أضلع سادها الهدوء أزماناً. . .

لقد كان الفن العربي يوصل الأمة بمعنى من الجلال يسمو بها عن المدارك الدنيا إلى أجواء أمتع وأمنع حتى إذا ما رفعت أبصارها عن الأرض. . . حتى إذا ما انعتقت من أسر المادة، فهمت الفضيلة؛ فسادت بالرحمة وحاربت بالأيمان. . . وكان هذا سر الخلود

حيثما تكن الأمة من المكانة يكن حبها للفن، لأن النفعيات مطلب من مطالب الحياة الوضيعة التي تعيش لنموت، لا الحياة التي تعيش لتدوم. . . لتخلد. . . لتقول للتأريخ

<<  <  ج:
ص:  >  >>