ولكنه الفكر العربي الجبار يبرهن على وجدوه، يبرهن على قوته، يوم يعرف أن للحياة منازع غير ما علمته إياه البهيميةالأولى في الغابات والكهوف!. . . ليكون أستاذاً في تلقين المثل العليا لكل من يلوك اللفظ فلا يقع لسانه إلا على الأكل. . . والنوم. . . واللباس. . .
هنا يقف الفكر الحديث عند حد تنتهي به سياحته، الفكر الحديث الذي يعبد الآلة ويمجد المادة ويستعذب الوقوف أمام الصنم الجبار؛ ليجد أن العربي سبقه في الحياة وسبقه في الفكر وسبقه في التأسيس
برهان واحد من براهين أشتات نقف منه على حياة أجيال ماتت. . . لنكون نحن بقيتها على الأرض نوطن النفس على حمل هذا العبء الذي حمله الجدود أزماناً
في هذا المدى الوسيع الذي يشمل الصين في أقصى الشرق ويقف عند أزباد بحر الظلمات! بذر العربي بذور فنه الأولى، فكان الجامع الأموي في الشام يطاول بمآذنه السماء، وكان المسجد الأقصى يهزأ بالدهر للغلاب، وكانت معجزات الأندلس وعظائم بغداد شاهد على ذلك الخلود. هو الغرس العربي، يثمر رجالاً يمجدون الله، ينتج مآذن تجلجل فوق سامقات رؤوسها كلمة:(الله أكبر). . .
ينتج فناً روحياً لم تسبقه إليه جهالات الأوربيين. . .
هناك في الصحراء. . . الصحراء التي يضيع البصر في مهامه مداها الوسيع، ويسبح الفكر على منكب لجتها السمراء، فما يزال يطفو ويرسب حتى يبلغ محجة تنقطع عندها أسبابه: تمخض الزمن الولود عن دين العلم والفن، فكانت أول بسمة من بسماته الندية ترف على روابي الحجاز وترتعش فوق بطاح الجزيرة، ثم لا تقف عند هذا حتى تفيض على العالم القديم بأسره فتشمله. هنا يبدأ بنا السبيل في سياحة مضنية طويلة، تريد جهداً وأدباً واصطباراً. . .
لقد جاء الإسلام، وفي النفس الجاهلية اعوجاج وعنجهية، فأقام الأول وأغرق الثانية حتى هيأها لأن تتقبل المعاني الجديدة وتستوعبها. فيقودها إلى غاية أبعد منها وأسمى ألا وهي: الفتوح ونشر الرسالة. ولقد كان الفتح أول الأسباب غير المباشرة إلى نضوج الذوق العربي لاختلاط البادية بالمدنية والشمس بالظل وتكوين لون جديد له سمة العيشتين وطابع