وأعني بالفيضان مساه الخزن التي يبدأ ارتفاعها وفيضانها في أوائل نوفمبر من كل عام. ولا يستطيع إنسان كائناً ما كان أن ينكر خطر مياه الخزن على بلاد النوبة، وما جرته على أهلها من ألم ونَصب، ومشقة وَعناء، وما جلبته من فقر وجدب، وقحط ومسغبة!!
قد يبدو ذلك عجيباً، ولكنه ليس بعجيب، غريباً ولكنه ليس بغريب، لأنه الواقع لا مِرية فيه. وهو وإن حاولنا إخفاءه وستره، فإننا نخفي الواقع، ونماري في الحق، ونزيد الداء استفحالا، والشر طغياناً. ذلك أن الرجل في بلاد النوبة يشعر بهذا الشعور، ويبديه ولا يكتمه، ويجعله مادة الحديث في كل مجلس وكل مناسبة. . والمرأة في بلاد النوبة تشعر بذلك وتحس به وتعلنه في كل مكان. والصبي والصبية والطفل والطفلة يشعرون جميعاً بذلك ويعلنونه في صراحة.
هذه الحقيقة على مرارتها، يجب أن ننظر إليها وندخلها في حسابنا لنطلب لهذا الداء، وندرأ هذا الخطر.
ولا داعي للموارية، ما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، وخير طريق نعالج به ذلك الشعور القوي بالغبن الفادح، والإحساس بالظلم المبين هو الإصغاء لشكاياتهم والعناية ببحث مشكلاتهم، بحثاً يدفع بها إلى الحياة لا على طريقة البحوث الآلية التي جرت بها عادة الحكومات والتي لا يكون مآلها بعد تشكيل اللجان إلا زوايا النسيان. .!!
والآن رُب سائل يقول: وهل كذب هؤلاء شعورهم؟ وهل جانبوا الصواب حينما اعتقدوا هذا، ورأوا في سد أسوان نقمة لا نعمة، وشراً لا خيرَ فيه؟ ثم أصبح مع الأيام عقيدة راسخة، متأصلة في نفوسهم لا يبغون عنها حِوَلا؟!
والجواب الحق، لا. لم يكذب هؤلاء شعورهم، ولم يحيدوا عن الحق، فلقد دهمتهم هذه المياه مرات عديدة. . دهمتهم عند إنشاء السد، فقالوا: شدة تزول، ولن تعود. . ورتبوا حياتهم على ذلك واطمأنوا إلى هذه الحياة. فتركوا منازلهم الأولى، وبنوا مساكن أخرى في نجوة من الغرق. ومأمن من الخطر وساروا على هذا النهج حيناً حتى ألفوا هذه الحياة، وكادوا