للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ينسون حياتهم الأولى قبلَ أن ينتقص الفيضان ومياه الخزن أراضيهم التي يزرعونها، ودورهم التي يسكنونها وبخاصة والمساحة التي أتلفتها مياه الخزن بعد بناء السد لم تكن مساحة واسعة، بل كانت محدودة ضيقة، والخسائر، ليست فادحة، بل هينة عوضتهم الحكومة بما رأت فيه الكفاية، وارتضوا ذلك منها، اعتقاداً منهم أن هذا الخطر على أراضيهم ومنازلهم لن يتكرر ولن يعود، وبهذا ألفوا هذا الوضع، على ما به من أل وضني.

ثم ماذا؟ ثم كان ما كان من أمر التعلية الأولى، فتشتت شمل الجميع، وتفرقوا أيدي سبأ هنا وهناك، لا يدرون ماذا يعملون. وكانت حيرة، وكان اضطراب، وكأنما هذا الماء المخزون أمام السد، عدوٌّ لدودٌ لهم. . ثم هدءوا وسكنوا، وأنشئوا بيوتاً جديدة ولكن أرضهم انتقصت أكثر من ذي قبل وطمست مرافقها، وتلف ذرعها. ووجدوا من عطف الحكومة عليهم ما أعاد إلى نفوسهم الجريحة شيئاً من الطمأنينة والسكينة والاستقرار، ولكنهم ظلوا يرقبون الحوادث في يقظة، وكأنما علقت أنظارهم بالسد وارتبطت آذانهم بكل ما يقال عنه، حتى تكونت في نفوسهم عقدة نفسية تعجز عن حلها الأيام، ثم طال الزمن وامتد، فنسوا هذا كله، ووجد أكثرهم في الهجرة باباً من أبواب الكسب خير من الكد والعمل والزراعة والحرث، فهاجروا إلى القاهرة والإسكندرية، وإلى كثير من عواصم الأقاليم والمديريات. . وانبثوا في نواحي القطر، بحيث لا تكاد تخلو منهم بلدة من بلاده، أو قصر من القصور، أو مصلحة ما من مصالح الحكومة ووزاراتها. . .

أما التعلية الثانية أيام صدقي باشا عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف فقد أثارت كوامن النفوس، ودخائل القلوب، وطفح الكيل بأبناء النوبة وهم يرون منزلهم للمرة الثانية، أو الثالثة في بعض المناطق الواطئة، القريبة من سطح النيل، يفتك بها الماء ويطغى عليها في ثورة حانقة، واندفاع مغيظ. .

حدثني أحد النوبيين فقال: كان أكثرنا يرى منزله يغرقه الماء رويداً رويداً ويقضي على ما به من غلات مختزنة، وأثاث قليل، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأنه مشغول بنفسه وأولاده الصغار، وضعاف النسوة والشيوخ.!

ويمكنك أن تدرك ذلك واضحاً جلياً حينما ترتفع مياه الخزن وتبلغ ذروتها في شهر فبراير ومارس تقريباً. . لقد كنا نخرج إلى النيل، نسير بجانب الشاطيء، فلا يتمالك الإنسان نفسه

<<  <  ج:
ص:  >  >>