يا صاحبي، لا تمتهن عبراتي المهراقة بين يديك، فما أرسلتها من ضعف ولا سكبتها من عجز. فالعبرة - يا سيدي - هي ذوب القلب السامي حين بطل على آلام الإنسانية وهي تضطرم وتتأجج، وهي خلاصة الدم النبيل حين تأخذه الرقة والحنان، وهي الصريح المحض من صفاء الروح وحرارة الحياة وسمو النفس ولعمري إن جامد العين إنسان لم يبلغ بعد درجة الحيوان.
أنني أذكر - الآن - يوم أن فررت من حجرة الشيخ علي، ذلك الفتى القميء العبوس. لقد أختاره أبي ليكون قائداً لي فوجدت فيه غلاً بغيضاً إلى نفسي ثقيلاً على قلبي، فرحت أحطم هذا القيد بطريقة صبيانية جميلة. وتدفقت النشوة في قلبي حين رأيتني أمكر بالشيخ علي فأغلبه على أمره وانتظر على أساليبه الملتوية الوضيعة. وظفرت - لأول مرة - بالحرية التي تدفعني إلى أن لا أخشى الرقيب ولا أخاف أبى ولا أرهب الشيخ علي. وأصبحت وما في حياتي من ينهرني عن لهو ولا من يردعني عن غي ولا من يدفعني عن طيش، فارتدغت في حماقات ما دعني عنها واحد من رفاقي ولا ذوي قرابتي: فأنا لا أذهب إلى الأزهر إلا حين يحلو لي ولا أطمئن إلى أستاذ إلا حين أجد فيه الفتور والضعف ولا أستمع إلى درس إلا حين ألمس فيه ما يجذبني إليه؛ ثم لا أجد وازعاً يغريني بالقراءة والمطالعة ولا أحس ميلاً إلى الاستذكار والتحصيل، فاطمأنت نفسي إلى عبث الطفولة ولهو الصبا. وأبي في القرية لا يعلم من أمري شيئاً وفي رأيه أن ابنه الشيخ الصغير يوشك أن يسمو إلى مرتبه ذوى المكانة والشأن من مشايخ الأزهر وإلى جانبي الشيخان حامد وحسن لا يستطيع واحد منهما أن يلومني على أمر ولا أن يؤذيني بحديث.
وذهبت غير بعيد، ثم استحالت حالي فلمست في حريتي معاني رجولتي. وللرجولة في نفس الصبي علامات لا تتم إلا بها. فأنا أقضي صدر النهار جالساً إلى عمامتي أهيئها على نسق وأرتبها على طريقة، أطويها وأنشرها ثم لا أبرح أطويها وأنشرها فلا أهتدي. وأنا أخلو إلى جبتي طرفاً من الليل - أزيل عنها ما علق بها من غبار وأمسح ما لوثها من