طين، والطريق بين الأزهر والدار ضيق قذر تتراكم فيه - دائماً - الأوساخ والوحل، ثم يعجزني أن أدفع بها إلى الكواء ومالي طاقة بما يطلب من أجر، فأنشرها تحت الحشية علها تبدو في رأى العين قريبة عهد بالمكواة. وأنا أنطوي على حذائي - ساعة من زمان - أطليه بالورنيش حيناً وأغسله بالماء أحياناً. ثم تصنعت الرجولة فأخذت أمشي الهوينى منتصب القامة متزن الخطو، وأتحدث في هدوء ورزانة، وأجلس إلى شيخي في ثقة واطمئنان، وأستمع إلى الدرس في أناة وصبر. ومضت أيام ثم غلبتني طبيعتي الصبيانية وضاقت بما أتصنع فإذا أنا صبي بين صبيان يملئون الحارة صياحاً وضجيجاً ويندفعون في لهو ولعب ما ينتهيان إلا أن يثور بنا صاحب الدار أو يهربنا رجل من الجيران فننطلق في ذعر صوب الحجرة كفئران أفزعهم قط كاسر.
وأنست إلى حجرة الشيخ حسن وما هي بأوفر حظاً من حجرة الشيخ علي ولا أسعد حالاً من حجرة الشيخ فهمي، وما فيها غيرنا: أنا والشيخ حسن، والشيخ حامد. ثلاثة ضمتهم آصرة القربى وجمعتهم وشيجة السن فكلاهما تربى في الكتاب وزميلي في الملعب ورفيقي في الغيط وصاحبي في القرية. هنا وجدت الحرية والراحة وسعدت بالهدوء والطمأنينة.
أما الشيخ حامد فهو فتى مدلل رقيق الحاشية لين الأعطاف لدن الأوصال غض الإهاب. وضئ الوجه، وسيم القسمات، يتألق نضارة وجمالاً، يتأنق في لباسه ويتثنى في مشيته ويتأرج في عطره، ليس فيه من معاني الرجولة إلا ثياب الرجل ولكنه صاحبنا وعلينا أن نرعاه ونتعهد حاجاته.
وأما الشيخ حسن فهو فتى في فجر العمر أيد في غير نزق، صلب في غير جفوة، رقيق القلب رضي النفس حلو الحديث خفيض الصوت. أخذ نفسه بالشدة والقسوة فهو يصرفها عن نوازع الحياة ويلفتها عن شهوات المدينة، ويجد لذته في الدرس والكتاب، فيقبل على الدرس في نهم ويطمئن إلى الكتاب في رضا، ويقضي سحابة النهار في صحن الأزهر لا يبرحه إلا إلى حلقة الدرس أو إلى الصلاة. وعلى وجهه سمات حزن ما ينجلي، وفي عينيه عبرات تترقرق ما تنحدر، من أثر ما لاقى من عنت الأيام وجفوة الحياة.
لقد أحس الشيخ حسن اللوعة والأسى حين ماتت عنه أمه صبياً فوقع بين فظاظة أبيه الجاهل وشراسة زوجه القاسية. وأبوه رجل ريفي لم تصقله الحياة ولا هذبته التجارب فهو