جافي الطبع غليظ الكبد لا تأخذه الرأفة ولا تهزه الشفقة؛ وزوج أبيه فتاة في مقتبل العمر ورونق الشباب، مكرت بالرجل فأذاق ابنه البأساء والضراء وضربه بالجوع والعرى وأرهقه بالعمل في الحقل وفي الدار، ولكن أحقاد نفسها كانت تتأرث حيناً بعد حين فراحت تمكر بالصبي وأبيه في وقت معاً فدفعه إلى الأزهر. . . دفعه إلى هناك ليعيش ضائعاً يعاني غمرات الحياة وشظف العيش وقسوة الحرمان. ولكنه رضي بالكفاف أن وجده، واطمأن إلى الجوع، وسعد بالعرى، وصبر على الحرمان، ووجد اللذة والسعادة في الدرس.
وعاش الفتى في دنيا نفسه يسكن إلى آلامه ويستقر بين خواطره، يفزع عن الناس لأنه لا يجد فيهم الصاحب، وينفر من الجماعة وما فيهم من يشعره بالعطف. وهو أبي النفس كريم الأخلاق يترفع عن أن ينشر ضعفه أمام واحد من الناس لأنه يخشى أن يسخروا منه ويتندروا به. وأبوه في القرية في شغل عن أن يعني بابنه ومن ورائه زوجه توحي إليه بأمر فهو لا يرسل إليه إلا نفاية الخبز، وإلا قدراً من المش، وإلا قروشاً يدرأ بها سفاهة صاحب الدار. ثم هو يرى الشيخ حامد إلى جواره، هذا الفتى المدلل، وهو يستقبل أطايب الطعام والمال تترادف إليه من القرية الفينة بعد الفينة، فلا يهش لها وإن نفسه لتجذبه إليها جذباً عنيفاً، والشيخ حامد يلح عليه في أن يشاطره الطعام والشراب والمال فيتأبى عليه. ولشد ما كان يحزننا أن يفر من هذا الطعام وهو شهي لذيذ فيعتصم بالأزهر من بكرة النهار حتى الهزيع الأول من الليل، فلا يجلس إلينا إلا حين يوقن بأن الطعام قد نفد أو فسد.
ولطالما أزعجني أن يعيش هذا الفتى بيننا لا يطمئن إلى واحد منا، ولا يلمس المتعة في صحبتنا، ولطالما حاولت أن أصل إلى قرارة نفسه لأستل عنها أشجانها فما ظفرت إلا بالخيبة والإخفاق فعاش بيننا غريباً عنا.
وسار الفتى في سبيله لا يلوي على شيء يدفعه قلبه وعقله وكرامته معاً إلى غاية يبتغيها، فتقدم في خطى فساح يقفز فوق هامات رفاقه حتى أوشك أن يبلغ.
يا عجباً! ما لهذا النبت الغض وقد غذته القسوة وغمرته أشعة الشدة وسقاه الحرمان. . . ما له أينع ونما وأشتد غراسه فأثمر الرجولة والعبقرية والنبوغ؟ أفكانت جميعاً تصقله من صدأ وتحفزه إلى غرض؟
وفي ذات مساء دخلنا الحجرة - أنا والشيخ حامد - فإذا الشيخ حسن يلقانا في بشر وإشراق