تتأثر النفس الإنسانية بكل ما تحس من مظاهر الحياة، فإذا ما عبر المرء عن تأثره ذاك نثراً أو نظماً في لفظ نقي، كان تعبيره ذاك أدباً، فالأدب نتاج عاملين: مؤثر هو مظاهر الحياة التي تحفز الأديب إلى الإنشاء، ويتخذها موضوعاً لإنشائه، ومتأثر هو ذات الأديب التي يترجم القول المنظوم أو المنثور عن خوالجها، وليس يخلو عمل أدبي من آثار هذين العاملين ممتزجين، فكل عمل أدبي هو ذاتي وهو موضوعي، غير أن الأعمال الأدبية تتفاوت حظاً من هذا ونصيباً من ذاك، فإذا استرسل الأديب في وصف ما هو بازائه من مظاهر الحياة وشرح أحوالها على علاتها، مكفكفاً من عنان عواطفه محكماً دونها الفكر، كان العمل الأدبي موضوعياً، وإن أرخى الأديب العنان لعواطفه ملماً بالموقف الذي هو حياله إلماماً خفيفاً، كان عمله الأدبي ذاتياً.
فمظاهر الحياة المختلفة هي مادة الأدب لأنها مادة الإحساس والتفكير، وبدونها لا يتصور تفكير ولا شعور، ولا تكون النفس إلا خواء تاماً ولا الفكر إلا فضاء مطلقاً؛ والنفس الإنسانية هي العامل الفعال الذي يعكس صور مظاهر الحياة تلك، ويمنحها من الصفات ما يروق المرء حيناً ويطربه ويحببه فيها، وما يسوؤه حيناً ويؤلمه ويبغضه في بعض تلك المظاهر، والأديب مهما توفر على موضوعه الذي هو بصدده، ومهما كان موضوعه ذاك بعيداً عن نفسه وعن محيطه وزمنه، ومهما حكم فيه الفكر السليم والرأي المنزه، لا يخلو من أن يكون معبراً في عمله الأدبي عن ذاته، مصدراً عن طبيعته، وهي طبيعة يتفق فيها مع الآخرين إلى مدى، ويختلف عنهم في بعض نواحيها.
بل لا يعدو الحق من يقول إن الأديب لا يزيد مدى حياته على أن يعرض نفسه على قرائه، مهما تباينت موضوعاته وتعددت أشكال أدبه، فسواء راح مادحاً أو ذاماً أو واصفاً أو قاصاً، أو ملاحظاً لأحوال الناس أو متأملاً في ماضيهم ومستقبلهم، فهو لا يعدو محيط نفسه وتجاربه وعواطفه؛ بل إن بعض كبار الأدباء إنما بلغوا أوج نجاحهم الأدبي في العمل الأدبي الذي يصف كل منهم فيه قصة حياته، أو أهم تجربة من تجاربه، أو أزمة نفسية