عبرت به، كما قص لامرتين قصة حبه في (رفائيل)، وكما وصف كل من شاتوبريان وأناتول فرانس نشأته في آثاره الأدبية، وكما وصف تشارلز دكنز قصة طفولته في (دافيد كوبر فيلد)؛ وبلغ القصصيون ذروة نجاحهم في قصصهم التي كان أبطالها صوراً من أنفسهم أو من بعض حالاتهم النفسية، كما كان جيته فاوست، وكما كان أناتول فرانس بعض أشخاص كل رواياته
وأناتول فرانس نفسه يقول إننا لا نكتب إلا عن أنفسنا، ويزيد فيقول إننا لا نقرأ حين نقرأ إلا أنفسنا. ولا غرو فالمرء لا يدمن إلا قراءة الضرب الذي يعجبه من القول ويصادف هوى في فؤاده، ولا يصطفي من الكتاب إلا من يشاكله نفساً، وهو حتى حين يقرأ موضوعاته الأثيرة من آثار أدبائه المختارين يصبغ كل ما يقرأ بصبغة نفسه ويؤوله على حسب إدراكه وطبعه، ويستخلص منه ما قد لا يستخلصه غيره، وما لعل المنشئ نفسه لم يقصده، والناس إنما يقرأون الشاعر أو الكاتب وهو يتحدث عن نفسه لأنهم يرون في نفسه صورة من أنفسهم، وفي ذاته صدى من ذواتهم، فإذا ألفوه قد أغرب وباعد بين ما يصف وما يحسون نبذوه واستهجنوه، ولم يعنهم مما يصف من أحوال ذاته التي لا يحسونها في ذواتهم، أكثر مما يعنيهم من أحوال معيشته الخاصة ومطعمه وملبسه
والذاتي في أدب اللغة أسبق ظهوراً من الموضوعي: يبدأ الأدب في عهده الأول بتعبير الإنسان عن خواطره العاجلة وأحاسيسه السانحة وتجاريبه الحاضرة، يرسل ذلك على سجيته وبديهته قولاً سائراً أو أبياتاً شاردة، لم يعد لها العدة ولا تكلف فيها عناء طويلاً، ويرقى الأدب رقياً كبيراً وما تزال الصبغة الذاتية هي السائدة فيه، وتظل له هذه الصبغة مادام قريباً من البداوة غير آخذ أهله بشيء من الثقافة أو مقيدين لآدابهم بالكتابة؛ فإذا ما انتفع الأدب بالثقافة والتدوين ظهر فيه الضرب الموضوعي، إذ تتسع أفكار الأدباء ويمتد أفق نظراتهم ويقصدون التأمل في شؤون الحياة قصداً، غير منتظرين التجارب التي تسنح عرضاً، ويطلبون من مناحي الحياة ومذاهب التفكير الأبعد فالأبعد، فتزاحم الصفة الموضوعية الصفة الذاتية
فغزارة الضرب الموضوعي في الأدب من لوازم رقيه ووصوله إلى الطور الفني، بيد أن العنصر الذاتي لا يمحى ببلوغ الأدب هذا الطور، بل يبقى ويزداد رقياً وحرارة وعمقاً،