أطل صاحبي بعد أن نقر على الباب نقرتين أو ثلاثاً ونادى:
- ماذا تنوي أن تصنع بيومك؟ أتريد أن تبقى حيث أنت أمام هذا الركام من الهذر والغثاء، أم تريد أن ترى الشمس قليلاً؟
فقلت: ولكن متى نستطيع أن ننظر في كل هذا الذي ترى إذا لم ننتفع بيوم عطلتنا هذا؟ أليس الأولى والأحزم أن ننقل الحمل مجزئاً بدل أن ندعه يربو ويتراكم فنعود غير قادرين على زحزحته بل نقله؟
هذه كانت حجتي في إيثار البقاء في المنزل؛ ولكن صاحبي أدرك أنني أقول بلساني خلاف ما تقوله عيناي، وأدرك أنني أود النجاة مما بين يدي على أي حال، ولهذا لم يرد علي أن قال:
- إنني أنتظرك في أدنى الشارع، فهو يوم من أيام الربيع التي لا تفوت. والوادي اليوم متحف من متاحف الطبيعة للزهر والعطر والخضرة والظل، ولا يفوت هذا اليوم إلا كل خامد الحس كافر بالسحر والجمال.
سرنا ساعة وبعض الساعة في خلال الوادي لا أستمع إلى حديث صاحبي ولا يستمع إلى حديثي إلا بعض سمعنا؛ فلقد كادت روعة الوادي في ذلك اليوم من أيام الربيع تعطل كل اتصال بين نفسينا وبين العالم الخارجي، إلا ما كان بينهما وبين هذه المائدة المثقلة بصوف الفتنة وألوان الجمال. ولم نثب إلى أنفسينا، مما سحرنا الوادي وشدهنا عن كل شيء سواه، إلا حينما رأيننا نخلف الوادي الخضيل وراءنا وننتهي إلى العراء. وعندها شعرنا بالتعب والعطش ينحطان علينا فجأة وفي غير إنذار. وقال أحدنا: هيا إلى تلك الدوحة نتفيأ ظلها إلى أن ينكسر سم النهار فنعود
ومكثنا في ظل تلك الدوحة ساعة ألح علينا بها العطش إلحاحاً شديداً، فقلت:
- ألا نقوم فنسير إلى النبع نزيل هذا العطش الذي يكاد ينسينا كل ما نلناه من لذة ومتاع؟