- لا تنس أن بيننا وبين الماء ساعة كاملة من المسير وفي خلال هذه الساعة سيخف وهج النهار ويخف معه ما بنا من أوام، ولكن انظر: ألا ترى هذه السوداء؟ إنها قذرة، ولكن حبذا نهلة من جرتها الصغيرة!
أننزل إلى الطريق نلاقيها ونطلب أن تسقينا أم ندعوها إلينا وننفحها بقليل من القروش؟
فقلت: أعتقد أن من الأريحية ألا نكلفها الصعود إلينا، فلنقم نلاقيها ونكون أقل أنانية وخور عزيمة
وهممنا أن نقوم، وأخذ كل منا يعيث في جيوبه ليقدم للفتاة شيئاً مقابل ما سيشرب من جرتها ويضطرها إلى الرجوع وملئها من جديد. بيد أن الفتاة أبدت حركة اضطرتنا إلى البقاء، فقد أشارت إلينا بيدها أن امكثا، وأقبلت نحونا. فالتفت إلى صاحبي وقلت:
- ما معنى هذا؟ أتكون قد سمعت كلمتك القاسية فجاءت تعاقبك العقاب الذي أنت أهله؟
فقال: لا ادري، وإنما يجب أن نكون على حذر، وعلى كل فأنا لا أرى في وجهها شيئاً من الشر. وهبها أرادت أن تعاقبنا، فليس ثمة أكثر من أن تسكب على رأسي هذا الماء الذي تحمل، وهو كل ما أتمناه
فقلت: قد تسكب الفتاة الماء كما تتمنى، وقد تسكب الماء والجرة معاً. . . ولست ادري عندها أي الجرتين تكسر الأخرى، جرتك الفارغة هذه، أم جرتها الملأى؟
دنت الفتاة حتى غدت على قيد خطوات منا، وابتسمت ابتسامة خفيفة أزالت من نفس صاحبي ما ساوره من قلق، ثم حيت تحية طيبة وأنزلت جرتها عن رأسها وقالت بلطف: تفضلا
وتناول صاحبي الجرة وبدأ يشرب، وقبل أن ينتهي من شربه أمسكت الفتاة بالجرة وأزالتها عن فمه، فدمدم محتجاً وقال:
دعيني اشرب، إنني سأدفع ثمن الماء!
وابتسمت الفتاة مرة ثانية وقالت في شيء من المرارة والأسف:
- كم يخطئ الناس الحكم! إنني لم اضن عليك بالماء، ولكن لعلك لا تعلم أن الإسراف في الشرب في مثل حالتك من العطش الشديد يأتي بأوخم العواقب. . . هيا يا أخي اشرب (وأشارت إلي)، ولكن يحسن أن ترش يديك ووجهك بقليل من الماء قبل الشرب: إنني لم