اكن أعلم أنكما بهذا المقدار من العطش وإلا لما سمحت لصاحبك أن يشرب قبل أن يغسل يديه ووجهه. . .
وبعد أن ارتوينا وغسلنا أيدينا ووجوهنا طلبت إلى الفتاة أن تجلس وتستريح، فاعتذرت بأدب ولطف وقالت: إن أخوي الصغيرين في مثل حالكما من العطش. فأرجو أن تسمحا لي بالرجوع لأملأ الجرة وأعود إليهما
فقلت بأسف: يؤلمنا أن نكون قد شربنا الماء الذي كان يجب أن يبرد عطش أخويك فلا تضطرين إلى الرجوع ومضاعفة الأمد الذي سيرتوي عنده أخواك
فأجابت الفتاة: لا بأس، إن أبناء الصحراء أكثر احتمالاً للعطش من أبناء المدينة ولو كانوا صغاراً كأخوي
وهنا سأل صاحبي وهو يداري أن تقع عين الفتاة في عينه: ولكن كيف عرفت أننا على هذا الحال من العطش فحدت عن الطريق وأتيت تسقيننا؟
فأجابت الفتاة ببساطة: سمعتك تتمنى لو تتاح لك شربة من جرتي فجئت!
فقال صاحبي بجزع ظاهر: أو سمعت ما قلته إذاً؟ فأجابت: نعم، سمعته. فقال: أسمعته كله؟ فردت: نعم، كله. فقال: وكيف جئت إذاً؟! فحدجته الفتاة بنظرة قاسية ولم تجب. وعندها أدخل صاحبي يده في جيبه وأخرجها ثم مدها إلى الفتاة. وعندها نظرت الفتاة إلي وفي عينيها دموع وقالت: ألا سامحكما الله. ثم حيت وانصرفت
كان إحساساً أليماً حقاً، شعرنا عنده أننا صغرنا وصغرنا إلى حد الضؤولة. وقلت لصاحبي: لقد كنت قاسياً أشد القسوة
فأجاب: أتقول إنني كنت قاسياً؟ لم لا تقول إنني لم أكن إنساناً؟ لعلك تستحيي أن تقولها!
وعدنا إلى الصمت، وفي صدر كل منا نشيج من العواطف الفائرة والأحاسيس المتهدجة الثائرة. ولم نر بداً من ترك المكان في الحال، فقد غدا في نظري بقعة قبيحة أشد ما يكون القبح. مؤلمة اشد ما يكون الألم. وظللت - فيما بعد - كلما سرت في ذلك الطريق أشيح عنه بوجهي كما يشيح كل إنسان عن الموطن الذي حدثت له فيه حوادث مؤلمة مخزية
عدنا أدراجنا، وأحببت أن أصرف صاحبي عن التفكير المؤلم فيما جرى له فسألته: متى تبدأ الامتحانات الفصلية؟