فأنت ترى أن الموازنة التي قام بها الآمدي إنما كانت بين أبيات مفرده اختارها من مطالع أبي تمام في الوقوف على الديار ونحوه واختار ما يقابلها من مطالع البحتري، ثم علق على هذه الأبيات تعليقا موجزا لا يتصل بموضوع القصيدة ولا وحدتها ولا غرضها ولا سياقها، كأنها لم تكن عضوا في جسم ولا جزءا من كل ولذلك تفرغ من الكتاب وأنت لا تدري أي الشاعرين افضل. وهذا النحو الذي نحاه الآمدي في الموازنة والحكم هو الغالب على رجال الأدب في تلك العهود. فكثيرا ما تجدهم يقولون: فلان أو صف الشعراء للقوس، أو انعتهم للخيل، أو امدحهم للناس لأنه قال بيتا واحدا في وصف قوس أو نعت فرس أو مدح ملك ولم اقف على موازنة بين قطعتين كبيرتين من قصيدتين إلا في كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لضياء الدين نصر بن الأثير الجزري المتوفي سنة ٦٣٧ فقد وازن بين قصيدتين في وصف الأسد للبحتري والمتنبي، وبين قصيدتين في الرثاء لأبي تمام والمتنبي، وإن لم تكن الموازنة تامة من كل وجه. . .
ومن الظواهر التي تسترعي نظر الباحث أن اللغويين والبيانيين قد اغفلوا نقد المنثور إلا ما اتصل بالقران الكريم والحديث الشريف. وقد ظهر اثر هذا الإغفال واضحا في كتاب نقد النثر المنسوب إلى قدامة بن جعفر فانه بكتب البيان والبديع أشبه. ولعله لو وجد ما يحتذي في هذا الباب من كلام الأدباء لما بان عجزه ووضح قصوره. وما ذكره ابن الأثير في كتاب المثل السائر إنما دار على الرسائل المسجوعة دون غيرها من أنواع النثر.
فما سبب قصور العرب عن النقد البياني، وما علة هذا النقص الذي استتبع نقصا مثله في تاريخ الأدب؟
سبب ذلك أن اسبق الأدباء إلى النقد هم اللغويون والنحاة. كانوا هم قضاة الشعر في أو اخر القرن الثاني وفي القرن الثالث، إليهم يحتكم الشعراء، وعنهم يأخذ الملوك والأمراء، حتى قال الخليل بن أحمد:(إنما انتم معشر الشعراء تبع لي، وأنا سكان السفينة أن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم) وغرض هؤلاء اللغويين والنحاة من النظر في الشعر إنما كان جمع الشواهد على غريب الألفاظ وصحة القواعد، وتسجيل معاني الشعر ومن ابتكرها