ومن سرقها. فكلما كانت القصيدة احفل بالشواهد واجمع للغريب كانت اجود، وكلما كانت المعاني ارسخ في القدم وأصل في الابتكار كانت افضل. ومن ذلك كان اغلب النظر مقصورا على الأبيات المفردة الشاهدة على صحة الكلمة، أو سلامة القاعدة، دون نظر إلى علاقتها بالقصيدة. وكان الري مجمعا على تقديم الشعر الغريب على المانوس، وتفضيل الشاعر القديم على المحدث. وقد اغرقوا في أيثار الجاهلي على الإسلامي من غير ميزة إلا الأقدمية، حتى قال أبو عمروا بن العلاء:(لو أدرك الأخطر يوما واحدا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدا). وكان شعراء القرن الثاني ينكرون ولا بد على أقطاب اللغة والأدب هذا التحكم ويسألونهم الأنصاف، فقد روى صاحب الأغاني أن حمادا الأرقط قال: لقينا ابن مناذر بمكة، فأنشدني قصيدته: كل حي لاقي الحمام فمود. . . ثم قال لي: أقرا أبا عبيده السلام وقل له: يقول لك ابن مناذر: اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد، ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي، وذاك قديم وهذا محدث، فتحكم بين العصرين، ولكن احكم بين الشعرين، ودع العصبية)!
وأخذ هذا الإنكار ينتشر ويشتد كلما ورفت ظلال الحضارة فصقلت الألسن وأرهفت الأذواق، حتى هب جماعه من بلغاء الكتاب في أوائل القرن الثالث ينقضون أحكام اللغويين والنحاة ويبنون الأحكام الأدبية على قواعد اقرب إلى التسوية والموضوعية؛ فقد قال الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥:(طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم اظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد بن الزيات). وقال أيضا:(رأيت أناسا يبهرجون أشعارالمولدين ويستسقطون من رواها، ولم أر ذلك قط إلا في رواية غير بصير بجوهر ما يروى، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان. وقال عبد القاهر في دلائل الأعجاز: (روى أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأل البحتري عن مسلم وأبي نؤاس أيهما اشعر؟ فقال أبو نواس. فقال: أن أبا العباس ثعلبا لا يوافق على هذا فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في سلك طريق الشعر ومضايقه وانتهى إلى ضروراته)