للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم سلك أبن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦هذا المسلك فقال في كتاب الشعراء: (ولم اسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر نختار اليه، سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقديمه، إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل بين الفريقين وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله. ولم يقصر الله العلم بالشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل كل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والاخطل وأمثالهم يعدون محدثين؛ وكان عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته. ثم صار هؤلاء قدماء عندنا، كالخزيمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه وأثنينا عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه)

واخذ مذهب التسوية بين القدامى والمحدثين يذيع على الأفواه ويروى في الكتب، حتى شاع الترف والسرف والظرف في حياة الناس فتفننوا في أساليب العيش، وتأنقوا في أفانين الكلام، واستحدث العراقيون ألوان البديع، واخذ البيانيون ينقبون عن أنواعه في عبقرية المولودين، كما كان اللغويون والنحاة ينقبون عن شواهد اللغة والنحو في كلام الجاهليين والمخضرمين، فبان شأوهم على المتقدمين في هذا المضمار، وأخذت سوقهم تنفق، وكفتهم ترجح، حتى ظهر في العلماء من يتعصب لهم ويتعزز بهم. واشهر هؤلاء ابن الأثير، فقد ناضل عنهم في مواضع متفرقة من كتابه المثل السائر، ومن ذلك قوله. (ولم اكن ممن اخذ بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إبداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. ولقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أو س، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الشعراء هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهر على أيديهم حسناته ومستحسناته. وقد ضمت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء) وقال في موضع أخر: (أن في الشعراء المتأخرين من

<<  <  ج:
ص:  >  >>