فاق المتقدمين. والذي أداني إليه نظر الاجتهاد دون التقليد، أن جريرا والفرزدق والاخطل اشعر ممن تقدم من شعراء الجاهلية، وبينهم وبين أولئك فرق بعيد. وإذا استفتيت قلت أن أبا تمام والبحتري والمتنبي اشعر من الثلاثة المذكورين، وليس عندي أشعر منهم في الجاهلية ولا في الإسلام. . . وإذا انصف الناظر وترك التحامل ثم ترك التقليد عرف أن حرف الميم وحرف اللام من شعر أبي الطيب المتنبي قد ضمنا من الجيد النادر ما لم يتضمنه شعر أحد الفحول من شعراء العرب).
مما تقدم نستخلص أن علماء اللغة والنحو والبيان لم ينظروا إلى القصيدة باعتبارها كلا تتساوق أجزاؤه إلى غرض واحد، وإنما نظروا إلى ما تشتمل عليه أبياتها من غريب الكلم أو أصيل التراكيب أو محسنات اللفظ، وجعلوا ذلك سبب التفضيل وعلة الاختيار وأساس الحكم. وقل منهم من فطن إلى وحدة. القصيدة كالحصري القيرواني حين أشار إلى ذلك في زهر الآداب وروى عن الحاتمي قوله:(مثل القصيدة مثل الإنسانفي اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الأخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفى معالمه. وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسا يجنبهم شواهد النقصان، ويقف منهم على محجة الاحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها من جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم، واعتمادها البديع وأفانينه في أشعارهم)؛ ولكنهم لم يبسطوا هذا الرأي ولم يطبقوا فيما عالجوه من النقد والموازنة.