هنالك في الجي العثماني بسالونيك في بيت حقير متهدم، قائم فوق أحد التلال في ظل حصن عتيق، رأى الطفل مصطفى نور الحياة عام ١٨٨١، في عصر كانت الإمبراطورية العثمانية تعالج سكرات الموت من جراثيم الأمراض الخلقية والاجتماعية التي تنخر فيها، وتكاد تلفظ النفس الأخير، لولا أن قضت السياسة الأوربية في ذلك الحين أن يبقى (الرجل المريض) ليذود الدب الروسي عن حياته، ويحول دون امتداد طغيانه حتى يوافيه أجله المحتوم. فكأن العناية الإلهية قد أرسلت الطفل العظيم في هذا العصر لتبصره بموطن الداء، وتهيئه لتأدية رسالته لإنقاذ أمته.
كان أبوه علي ريزا رجلاً مغموراً نزح من ألبانيا إلى سالونيك طلباً للعيش وسعياً وراء القوت، فابتسم له الأمل فيها نوعاً ما، واشتغل كاتباً بإدارة الدين العثماني، ولم يكن مرتبه الضئيل ليقوم بمطالب أسرته، فزاول تجارة تعينه على الحياة.
أما أمه زبيدة فكانت كسائر النساء العثمانيات، قعيدة البيت لا ترى نور الشمس إلا من قوته، ولا تغادره إلا في رفقة أحد محارمها لتعود ذويها أو جيرانها الأقربين، فظلت في ظلام دامس من الجهل بشئون العالم الخارجي لا تلم حتى بمبادئ القراءة والكتابة، ولكنها كانت ربة أسرة بحق تعرف كيف تدبر أمورها بحزم، وتسوسها بنظر بعيد، في مزاجها شيء من الحدة، وفي محياها سيماء النبل والسيادة. يمتزج في عروقها الدم الألباني بالدم المقدوني، وكانت أقرب إلى الرجولة في بنيانها، مديدة القامة، قوية الصحة، وقد آثرت الحياة بجوار الريف الذي أحبته ونشأت في أحضانه، فظل لها خلق أهله من إيمان عميق ووطنية صادقة، واستمساك بالقديم، وعقل رجيح صائب الحكم في مسائل الحياة الأولية، وكانت ككل امرأة عثمانية تهب نفسها، وتصفي ودها لزوجها وأطفالها الثلاثة الذين توفى أحدهم في طفولته، ولم يبق سوى مصطفى وأخته مكبولا.