إن موضوع (أصول التحقيق الجنائي) أعني الأساليب المتبعة لأثبات الأفعال الجُرمية هو من أهم موضوعات (العلم الجنائي)، هذا العلم الذي ينظم إيقاع العقاب على من يخالف أمر القانون أو نهيه
إن أهمية هذا العلم وخطره يظهران واضحين في نتيجته الضرورية، وهي الحكم بالعقوبة على من ثبتت جريمته، عقوبة تحرم المتهم المقرر تجريمه أقدس حقوقه، من ماله وحريته بل من حياته أيضاً
لقد تعاقب على أصول التحقيق الجنائي في أوربا أسلوبان أصليان يعرف أولهما بالأسلوب (الادعائي) وثانيهما بالأسلوب (التحقيقي). ظل الأسلوب الادعائي سائداً في أوربا حتى القرن الخامس عشر، ومن مقتضاه أن يرجع القاضي عند عدم اقناعه بالشهادات المسرودة أمامه واصرار المتهم على إنكار الجرم إلى ما يسمونه (حكم الله) ليفصل بين المتداعيين. أما حكم الله فقد كان يتجلى للقاضي بالمصارعة، والماء الغلي، والكي بالنار!
ثم أحلوا الأسلوب (التحقيقي) محل الأسلوب الادعائي حوالي القرن الخامس عشر للميلاد، فكان التحقيق يجري فيه بين جدران خرساء وفي خلوات متتابعة، بين حاكم مجرب يميل بحكم العادة المسلكية إلى أن يرى في الظنين مجرماً، وظنين عاجز عن الدفاع مضطهد في السجن ومستعد للإدلاء بإفادات ضارة فاضحة، وكان قضاة هذا الأسلوب، حينما لا يظفرون - بعد صفحات التحقيق المختلفة - بأدلة كافية لأخذ المتهم، وبكلمة أصح، حينما لا يظفرون بشيء ضده؛ يأمرون بسوق المسكين إلى حجرة التعذيب للحصول على اعترافه، وعلى ما في هذا الاسلوب الاستنطاقي من قسوة ووحشية، فقد كان يظهر للاوربيين طبعياً جداً وضرورياً، حتى انهم كانوا يطلقون عليه اسم (المسألة القضائية)!. ويذكر الاستاذ (جارو) هذه الأصول في موجزه (الأصول الجنائية) جزء ١ فقرة ٢٣) فيقول: (. . . مع أن استعمال التعذيب كان عاماً، فان طرق استعماله كانت مختلفة، باختلاف البلاد والبرلانات، وبينمت كان التعذيب بالماء والآلات المخصصة لتعذيب المتهم في أعضائه