في أواخر أكتوبر من العام الماضي، كان قد انقضى ألف ومائة عام كاملة على حادث كان له أعظم الآثار وأبعدها في تاريخ الإسلام والنصرانية، بل كان كلمة الفصل الحاسمة في مصاير الإسلام والنصرانية.
هذا الحادث الجلل، هو موقعة بلاط الشهداء التي تعرف في التواريخ الإفرنجية بموقعة (توراوبواتييه)، والتي نشبت بين العرب والإفرنج في سهول فرنسا على ضفاف اللوار في أوكتوبر سنة ٧٣٢.
وقد مضى على بلاط الشهداء ألف ومائة عام، وتغير وجه التاريخ، ومحيت آثار الإسلام من غرب أوربا ومن الأندلس منذ نحو أربعة قرون. ومع ذلك فإن ذكريات بلاط الشهداء ما زالت حيّة في الغرب، وما زالت وقائعها وآثارها التاريخية موضع التقدير والتأمل من جانب المؤرخ الغربي. وكان انقضاء الألف ومائتي عام على حدوثها، ذكرى جديدة نظمت من أجلها الاحتفالات في فرنسا، وكانت مثار تأملات وتعليقات جديدة، تدور كلها حول الصيحة التاريخية القديمة: لو لم يرد العرب والإسلام في سهول تور، لما كانت ثمة أوربا نصرانية، بل لعلّه ما بقيت نصرانية على الإطلاق، ولكان الإسلام اليوم يسود أوربا، وكانت أوربا الشمالية تموج اليوم بأبناء الشعوب السامية ذوي العيون الدعج والشعور السود، بدلاً من أبناء الشعوب الآرية ذوي الشقرة والعيون الزرق.
وهذا الحادث الجلل، وهذه الذكريات والتأملات التي آثارها وما زال يثيرها، هي موضوعنا في هذا الفصل. وسنعنى بشرح مقدماته وتفاصيله على ضوء أوثق المصادر العربية والغربية، وسيرى القارئ بعد إذ يتلو هذه التفاصيل، أن التاريخ الإسلامي كله قد لا يقدم إلينا حادثا له من الخطورة والأهمية وبعد الأثر ما لموقعة بلاط الشهداء.
- ١ - افتتح العرب إسبانيا، وغنموا ملك القوط في سنة ٩٧ - ٩٨هـ (٧١١ - ٧١٢) م على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، في عهد الوليد بن عبد الملك، وأضحت أسبانيا من ذلك التاريخ كمصر وأفريقية ولاية من ولايات الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة من قبل الخليفة الأموي، ينظمون شؤونها، ويدفعون الغزوات الإسلامية