غام الزجاج أمامي من كثرة ما سقط عليه من ندى الفجر، وكنت - كلما قطعنا بضعة فراسخ - أمسحه بمنديل ثم أجلوه بورقة، وكان ذلك يحوجني إلى الوقوف ثم استئناف السير، وهذا مضيعة للوقت، والشقة بعيدة، والرهان جسيم؛ فقلت أرفع الزجاج، فإن التعرض للهواء البارد أيسر محملاً، وأهون من النظر من زجاج عليه ضبابة، وإن كانت رقيقة؛ وصحيح أن أختي كانت تصف لي الطريق وتسمي لي ما يعترضنا عليه، وتعين لي مواقع الأشياء، ولكن السائق لا يستطيع أن يعتمد على غير عينيه؛ ثم إن وصفها كثيراً ما كان يحيرني ويحدث لي اضطراباً، فقد كانت تقول مثلاً:(هذا رجل في وسط الطريق. . لا لا لا. . إنه أقرب إلى اليسار. . . إنتظر. . . بل هو يمشي يميناً. . . إمض على بركة الله. . . لا خوف).
فأتنهد، وأمضي على بركة الله، فما ثم شيء آخر أمضي عليه؛ وبودي لو تبين لي كيف أستطيع أن أتريث وأنتظر حتى تتثبت هي وتقطع الشك باليقين! ثم إني لم أكن أومن بأن نظرها أصح وأسلم وأقوى، وأنه يسعها ما أعياني من اختراق هذا الضباب - أعني النظر من خلال الزجاج المتغيم. لذلك توكلت على الله ورفعت الزجاج.
وقال زوجها:(لا بأس! ولم لا؟ إنه لن يصيبنا شر من الإلتهاب الرئوي.
فرمت إليه زوجته شيئاً وقالت: (تلفع بهذا).
فرده إليها وهو يقول:(الكلب لا يعض أذن أخيه. . . صدق والله!).
فثاروا به وشغبوا عليه، ولما قرت الضجة قلت:
(غط صدرك إذا كنت تخشى الهواء، وفمك أيضاً - فإني نويت أن أعوض ما خسرت الآن).
وضغطت بقدمي فانطلقت السيارة كالسهم، وانحنت أختي تنظر إلى العداد، وجعلت تعلن إلى الرقم كلما تغير، وتصيح:(٤٠. . . . ٤٣. . . . ٤٧. . . . ٥٠. . . . أوه! لقد وصل إلى الستين. . . .! السبعين. . . .).