وأقبل الشيخ عُمران ذات صباح يجرْ رجليه جرَّا فيثير عجاجةَ من تراب الثرى، فبادرني بالتحية، ثم ارتمى على المصطبة كأنما ينفض عن كاهله حملاً ثقيلاً ينوء به. وكان في عينيه حزن عميق، رغم ابتسامة افترَّ عنها ثغره، ولكنها كانت تعبر عن حزن أعمق من ذلك الذي لاح في نظراته وشاع في تقاسيم وجهه. وكثيراً ما يكون الابتسام عن حزن دفين، تجمد معه العين ولكن القلب في بكاء. ثم أطرق ومضى يحرك أصابعه الهزيلة فوق حبات مسبحته الكبيرة، ويتمتم بكلمات غير بيِّنة كأنه يناجي نفسه بالمعاني التي كانت تجيش في صدره
- كيف بي لا أرى الدنيا كما كنت أراها منذ أيام؟ لقد تَغَّيرت فيها كل شئ وانقلب فيها كل مَعَنى! فالوجوه التي أراها ليست هي الوجوه التي كنت أعرفها؛ والكلمات التي تطرق سمعي لا تؤدي في نفسي ذات المعاني التي كانت تؤديها من قبل؛ والزمان والعمر والحياة! تلك التي مضت تغمرني بالأمل وتشيع في نفسي معاني الحسن وأفانين الجمال، كيف حالت تلك الألوان الزاهية الغَضَّة؟ وكيف انتهى الأمل ومات الحُسن وذهب الجمال؟ في لحظة واحدة ماتت الدنيا في نفسي بكل ما غرست فيَّ من المعاني الأولى! والناس والمجتمع ونظام العيش! كيف أصبح الناس في عيني كأنهم القُرود الزُّعر يهيمون في أودية الأحلام! وكيف بالمجتمع وقد انقلبت نظرتي فيه، فإذا به موكب من الناس ليس فيه إلا التزوير على الطبيعة، والتدليس على الفضائلَ. وكيف بنظام المعايشة وقد بانت لي في لحظة واحدة خفاياه، فإذا به الكفران بكل ما كنت أتخيل من المعاني التي لا تزدهر الحياة إلا بها
وكان يتكلم وناظراه إلى السماء، كأنه يأنف أن يخاطب أهل الأرض. كنت تظن أنه يناجي أشباحاً وخيالات تراءت له في الأفق البعيد، أو أنه يقرأ هذه المعاني من كتاب صفحاته السماء
كان قد مضى بضعة أسابيع والشيخ عمران بعيد عن ندوتنا الريفية، فلم نسأل عنه ولم نبحث وراءه. لأن هذا الشيخ المحنك له وقفات عن الاتصال بالناس، وغيبات قد تطول