وقد تقصر، يخلو فيها بنفسه، بعيداً عن جلبة القرية، فيظل أياماً أو أسابيع يخرج من بيته مع الغراب، ويأوي إليه بعد أن يموت أهل القرية تلك الميتة الصغرى. وكنا نحترم في هذا الشيخ الوقور نزعته تلك، فلا نحاول أن نقطع عليه خيط أحلامه. رأيته مقبلاً، فتوقَّعْت أن أرى تلك الابتسامة الفلسفية التي عوِّدت أن أراها مرتسمة على شفتيه، وذلك البريق الواضح الذي ينبعث من عينيه. ولكن الابتسامة كانت عن حزن، وذلك البريق عن ريبة من أمر الدنيا. ولكن ما وراء ذلك؟
هذا شيخ قد رمته الدنيا بأرزائها، فسلبت منه الثراء وسلبت مع الثراء هدوء النفس، فثار على الدنيا وعلى أهل الدنيا، وعلى أهل اليسار منهم خاصة. فإذا كلمك فيهم، فإنما أنت تسمع لزعيم من زعماء الاشتراكية، أو لصعلوك متطرف من صعاليك الدولية الثالثة
ورابني منه أن يبادرنا بتلك الكلمات بعد تحية قصيرة من يديه المُرْعَشتين، فتوقعت أن داهية أُخرى حلت بذلك الشيخ لعله فقد البقية من ماله، أو اعتدى عليه أحد المفاليك، أو أغتصبه سرى من السّراة شيئاً من طينه القليل. غير أن ذلك كله لم يكن شيئاً جديداً عليه، وتعابير الحزن الشائعة في ملامحه كانت ولا شك تنم عن سبب أعمق من جميع هذه الأسباب، وأمعن في الإيلام، وأعمل في تحريك هواجس النفس
- ما وراءك يا شيخ؟ لقد طالت غيبتك، ولم نشأ أن نعكر عليك صفو تأملاتك التي تسعد بها في حقلك إلى جانب ساقيتك وأشجارك؛ فكيف أنت وكيف أولادك؟
وكأن السؤال عن أولاده قد حرك جميع أوتار نفسه، فتطلع نحو السماء وقال:(حمداً لك يا رب!)، ولكن دمعتان أطلنا من حدقتيه، فدل بريقهما على كارثة لم يألفها عمران وقد حطمته السنون
- أولادي كما تعهدهم، لم يحدث بهم حدث غير مألوف في هذا الحياة. شاءت الطبيعة أن تستأثر بواحد منهم، فانتزعت من قلبي في يوم وليلة أسامة الصغير، فقمت نحوه بالواجب الذي يقوم به الأحياء للموتى في العادة، وأسلمته للتراب، إلى سفر اللانهاية، إلى القرون ثم القرون تتوالى عليه في حفرته تلك، في ظلام الأرض، وراء تلك الحجارة الباردة المرطوبة؛ بل وراء الأبد والأزل، وراء السعادات والشقاوات، وراء الأحقاد والضغائن، وراء الآلام والأحزان، وراء الجهالات والحفائظ، بل وراء كل شئ، حتى وراء الأقدار. ثم