ودعته بقلبي لا بشفتيَّ، وعدت أدراجي مشتت النفس خائر القوى مضطرب الوجدان، أضرب في فلوات الوهم: أسائل نفسي ما الموت وما الحياة؟ ولكن. نعم ولكن. . .
ثم أمسك عن الكلام، ودموعه تنهمر قطرات من الحزن والأسى البالغ العنيف
- ولكن ماذا؟ لقد أثرت شجوني أيها الشيخ، وحركت كوامن نفسي، وأثَرْتَ في صدري ذكريات كانت نائمة
- ولكن. نعم، ولكن ليست البلوى في الموت، ولا المصيبة في ترك الدنيا. الداهية كل الداهية في الحياة
ومضى ينكث في الأرض بمخصرة كانت في يده، ويرسم فوق الثرى رسوماً، أشبه بتلك التي يرسمها الأطفال على رمال الشاطئ، لا تلبث أن تمحوها الأمواج. ثم قال:
- ولأي شئ تثور شجونك وتتحرك لواعج نفسك؟ إنما الشجن شجني، والحزن حزني، والبلوى بلواي؛ والعزاء بالزمن، والسلوى بالاستسلام للقضاء. فلست في حاجة لأن أسمع تلك الكلمات الجوف التي اعتاد الناس أن يُعَزُّوا بها عن المصيبة، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتزويرها واضح لا يحتاج إلى دليل، والتدليس فيها بيِّن لا يعوزه البرهان. والناس هم الناس، والدنيا هي الدنيا، والأقدار تسِّيرنا في ليل معتم من الحوادث، لا نستطيع أن نرجع إلى ما فات منه، ولا أن نَرسو فيه بأرض. لجٌ مائج، والسفينة تحملنا كرهاً، فتسير رخاء حيناً، وحيناً تلاطمها الأمواج
- إن هذه لفلسفة جديدة، بعث الحزن معانيها في نفسك، وأثار الشجن تفاصيلها في وعيك. فإني عهدتك على غير ما أنت، صباراً غير بئوس، جلداً غير متخاذل، مرحاً عند الخطب قلَّ أو جلَّ
وكانت مخصرته ما تزال في حركتها ترسم في الثرى دوائر ومربعاتَ، وزوايا ومنحنيات، ولوالب وإهلجات، فكانت تلك الرقعة المتخاذلة المعاني، المتداخلة الصور، صفحة كاملة تقرأ فيها دخيلة نفسه، وحركات وجدانه، ولواعج قلبه. ومضت المخصرة ترسم ثم ترسم، ومن ورائها لسانه يتحرك:
- كلا يا بني هذه الفلسفة قديمة، ولكن معرفتنا بها جديدة. تعلمنا إياها المصيبة إذا جلت، والقارعة إذا نزلت. فمن فطن لها فطن للحياة، ومن ضل عنها عاش العمر معتم البصيرة