أعمى القلب. هذه الفلسفة يا بني قطعة من الحياة ذاتها، فكيف تكون جديدة علينا؟ وإنما تكون معرفتنا بها أدق، ووقوفنا عليها أتم، كلما كانت فوادحنا أعظم، وكوارثنا ألأم وأشأم. إن كل مرائي الحياة ومجاليها ومناظرها، أشياء إذا مضى عليها قليل من الزمن مرت على خواطرنا كالأحلام، لا يبقى منها إلا الحقائق المريرة؛ وكل الحقائق مرة أليمة، والآلام أشد حقائق الحياة مراراة؛ تبقى في النفس آثارها، فإذا غيَّب الزمن بعضها وعملت فيها دورة الليل والنهار حتى كادت تنضاف إلى وادي الأحلام، فإنها بطبعها تكون أوضح أحلام الحياة، وأشدَّها بياناً وأعمقها أثراً، وأبقاها مع التذكر أطول الزمن. والحقيقة كالجبل السامق تتسلقه على درج من الألم والحزن والنصب، وكلما صعَّدت فيه زادت آلامك، وتضاعفت أحزانك، حتى إذا بلغت القمة أشرفت منها على محيط الدنيا، فالسماء من فوقك تجوبها ذكاء بكل عظمتها، والأرض بوديانها وشعابها وغاباتها منبسطة تحت قدميك، ولكن الأسف كل الأسف أن الحقيقة طريقها الألم، طريقها الحرمان، طريقها الأحزان تمزق نياط القلب، وتبدد قوى النفس وتهد من بناء العمر. . . ما أجلها وما أقساها
- أما الزمان، فذلك المجهول الذي نعامله، كما يقول فيلسوفنا المعاصر. هو ذلك التيار الهادئ المنحدر إلى لا نهاية. هو ذلك العقد النظيم من الحركة الدائمة. هو ذلك الكائن الموهوم الذي لا يشعر بوجودنا ولا يأبه بآلامنا. ونحن لجهلنا نعامل هذا الزمان، نعتب على الزمان، ونغضب من الزمان، ونتبرم بالزمان. وما الزمان في مفهومنا العادي سوى الظرف الذي نعيش فيه. وما الظرف الذي نعيش فيه إلا تصرف القدر وتصرف ذلك الناس الذين نعايشهم. أما القدر فذلك الذي لا نعرف، هو ذلك العالم المغيب. أما الناس فهم الناس، أولئك الذين يعيش سوادهم دسيسة عليك في الحياة، والدسيسة كما يقول شكسبير تجد حماها ومستقرها في شيئين: بشاشة الوجه، ومعسول اللفظ فقال:
فأمَّا إن أردت حًمِى أميناً ... فخلف بشاشة المُتَبَسِّمينا
- تنزل بك الكارثة، وتحل بك القارعة، فيواجهك الناس وعلى ألسنتهم تلك الألفاظ المحفوظة عن ظهر قلب، تتحرك بها شفاههم، ولا تعيها قلوبهم وقد تفجع في مالك أو عرضك، فتسمع منهم جملاً وقفت على ذلك الظرف. وقد يموت لك ولد كما مات ولدي،