من حق الزهاوي على (الرسالة) وهي ديوان العرب وسجل الأدب أن تقف على ذكراه العظيمة الأليمة وقفة الذاكر بالجميل تحي بنثير الورد خلود مجده، وتحي بنثير الدمع مصاب فقده: فلقد ساعد على إنهاض العرب بوثوب فكره. وعلى إحياء الأدب بوميض روحه، وعلى إنعاش (الرسالة) بعيون شعره. ومن حق الزهاوي على صاحب الرسالة أن يقوم في هذه المناسبة فيفرغ في سمع الزمان الواعي هذا الحديث الذي يتسم على ما اضن بخبرة الصديق وثقة المطلع ونزاهة المؤرخ؛ فإني ما ذكرت العراق ألا ذكرت في أول أشيائه فندق (كارلتون)، وفي أول أشخاصه شخص الزهاوي؛ ذلك أن أول مكان لقيت فيه العراق هو هذا الفندق، وأول إنسان سمعت منه العراق هو هذا الرجل!
كنت جالساً في بهو هذا الفندق صباح اليوم الثاني لقدومي بغداد، أروض قلبي على روعة الفراق، وأذني على لهجة العراق، وعيني على غرابة الصور، وإذا بأحد الندل يلقي إلي بطاقة كتب عليها (جميل صدقي الزهاوي)، ولم تكد تلوح في مخيلتي صورة الشاعر التي صورها السماع والقراءة، حتى رأيت على باب البهو شيخاً في حدود الثمانين قد انخرع متنه وثقلت رجله ورعشت يده فلا يحمل بعضه بعضاً إلا بجهد
اقبل علي يتخلج على ذراع غلامه وقد انبسطت أسارير جبينه العريض وانفرجت شفتاه الذابلتان عن ابتسامه نضرة عذبة، ثم سلم علي تسليم البشاشة بيد مرتجفة، ورحب بي ترحيب الكرم بصوت متهدج، ثم انطلق يشكو جحود الأمة وإغفال الدولة وكيد الخصوم وإلحاح المرض، وتطرق إلى خصومته عامئذ مع الأستاذ العقاد فذكر - والأسف المر يكسبه لهجة المظلوم وهيئة الشهيد - كيف استغلها من سدد خطاه في الشعر، وارجف بها من تولاه بالرعاية؛ وحمد الله على أني جئت بدله فقد كان وجوده كما كان يظن تأليباً متصلاً على فضله، وإزعاجاً مستمراً لسكنته
لم يدع لي الزائر الكريم فرجة بين كلامه الدافق ادخل عليه منها بالتخفيف والتسرية، فان الزهاوي - كما علمت بعد - ديدنه أن يتكلم، كالبلبل خاصته أن يغرد، والزهر طبيعته أن يفوح؛ فهو في مجلس الصداقة شاك أو شاكر. وفي مجلس الأدب محاضر أو شاعر، وفي