للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مجلس الأنس مفاكه أو محدث.

كان الشيخ يتكلم أو ينشد ونبراته المؤثرة، وقسماته المعبرة، ولحيته الخفيفة المرسلة، ووجهه المسنون الأعجف، وشاربه النائم على فمه الأهرت، وعينيه البراقة ترأرئ من خلف المنظار، وشعره اشمط يتهدل على نتوء الصدغ، تخيل إلي أن طيفاً من أطياف الجدود، أو نبياً من أنبياء اليهود، قد انشق عنه حجاب الزمن فجأة في هذا المكان الصامت والنور القاتم والجو الغريب؛ ولكن الحيوية التي تنبض في حركاته، والشبيبة التي تفيض في كلماته، والعزيمة التي تضطرم في نظراته، كانت تطرد هذا الخيال وتجعلني وجهاً لوجه أمام (كتلة) من الأعصاب القوية المشدودة تتكلم وتتألم، وتثور وتهدأ، وتسخط وترضى، وموضوع مقالها وانفعالها لا يخرج أبداً (الأنا) إذا صح هذا التعبير

دأبت (عربانة) الشيخ بعد ذلك على أن تقف أمام منزلي صباح يوم الجمعة من كل أسبوع. فكنت استقبله استقبال العابد المتحنث للكاهن الملهم، ثم نقضي ضحوة النهار معاً يحدثني فاعجب أو ينشدني فاطرب؛ وقد تكون أذني إلى فمه وليس معنا ثالث ولكنه يجاهر بالإلقاء، ويصور المعنى بالصوت والإيماء، حتى يدهش المنزل وينصت الشارع. وهو بين الفترة والفترة يعود إلى شكاته وشكواه، وأظل أنا أمام هذا الجيشان الروحي ساهماً حالماً أفكر في الذهن الذي لا يكل. واللسان الذي لا يفتر. والزهو الذي لا يتطامن، والطموح الذي لا يتقاصر، والقلق الذي لا يسكن، والتمرد الذي لا يهن، والشباب الذي يلبس رداء الشيخوخة. والحياة التي تتخذ هيئة الموت

كنت ألقاه في خلال الأسبوع مع الناس في منتداه بشارع الرشيد. أو على ضفة دجلة جالسا على الدكة الخشبية ينشد الأبيات الرائعة، أو يرسل النكتة البارعة، أو يروي الخبر الطريف، في بشاشة جذابة، وقهقهة ساذجة، ويده المرتعشة لا تنفك تعبث بمسبحته الصغيرة، أو تصعد وتهبط بسيكارته العراقية، أو تمتد (بالآنة) إلى نادل القهوة كلما طلب الشاي إلى

صديق وكنت أزوره في مثواه (بالصابونجية) فأراه في مباذله قاعداً يشكو الوسط لأنه قضى الليل ساهداً يقرأ، أو ذاهلاً ينظم، فالقصص والمجلات منتثرة على سريره وعلى مقعده، والمسودات مدسوسة تحت مخدته أو في ثيابه، فلا يتمالك حين يراني ان يصيح:

<<  <  ج:
ص:  >  >>