إذا مجد المنطق أمام الإنسان في الحياة نشأ على احترام المنطق إلى حد كبير، حتى ليعد العقل كأنه طاحونة منطق، وحتى يظن أن وسائل التأثير مقصورة على مقتضيات المنطق وأن لا إقناع إلا الإقناع المنطقي، ويخفى عنه أثر الإيحاء الذي يتخذ قوى النفس وميولها ونزعاتها وعواطفها وإحساسها وسائل يستخدمها بطرق تعجز أحياناً تتبع المنطق وتقصيه. وإذا اعتقد الإنسان أن الحياة مؤسسة على أسس من المنطق فحسب، وفاجأته بعكس هذا الاعتقاد إذا اختبرها، صعب وقع تلك الخبرة في نفسه. فإن تجاريب المرء في الحياة تعلمه أن الحياة ليست مؤسسة على الإقناع المنطقي فحسب، وأن المنطق نفسه يستخدم لكل غرض حتى غرض الإيحاء، وأن المنطق خليق أن يشبه بالخادم الذي يعمل في بعض البيوت فيغسل أماكن دورات المياه تارة، وتارة يطهي ويقدم الطعام للأسرة والزوار. والحقيقة هي أن للإيحاء أثراً كبيراً في الحياة حتى أنه ليسيطر على المنطق في بعض الأحايين ويستخدمه لأغراضه، وفي بعض الأحايين يغري المرء بعكس ما يغري به الإقناع المنطقي
وقد يعتمد المرء على مقتضيات المنطق لنيل العدل بين الناس في الحياة أو ما يراه عدلاً؛ فإذا لم ينله انهارت دنياه ودهش إذا لم يكن عالماً أن وراء حياة المنطق حياة أخرى تدين للإيحاء، وأن عليه أن يحدد موقفه في عالم الإيحاء هذا، وأن يتخذ عدته له وأن يبحث مخبآته وأسراره، فإن قيمة الناس والقضايا في ذلك العالم ليست إلا بقدر ما تستطيع أن تستخدمه من وسائل الإيحاء ومؤثراته، ولا يخلو أحد في الحياة من الخضوع لعوامل الإيحاء والتأثر بها سواء في ذلك التاجر والموظف
يحكى أن أشعب الثقفي قد أولع الغلمان بمعاكسته يوماً فقال لهم ليصرفهم عنه: إن في شارع كيت وكيت أفراح عرس تنثر فيها الدنانير على الجمهور؛ فصدق الغلمان قوله وتركوه وجروا إلى المكان الذي وصفه في قوله، فلما رأى أشعب تصديق الغلمان أغراه ذلك وجرى خلفهم إلى المكان الذي وصفه في قصته التي لفقها كي يصرف الغلمان عنه. والناس في الحياة على شاكلة أشعب فيما يشيعون من الخير والشر عن أنفسهم أو عن