لو كان للكلام الآن مكان لقلنا فبذذنا القائلين، ولبعثناها في الأرض
مقالات تشتعل ح خفها ناراً وتتفجر كلماتها قنابل، ويكون منها براكين
تنفث الحمم ونحن (العربَ) أقرت لنا الدنيا بأنا ملوك المقال، وألسنة
البيان، كما أقرت لنا أننا أرباب الفعال، وأبطال الميدان، ولكن عهد
الكلام قد انقضى، وستسمع الدنيا غداً عنا، كما سمعت منا، أحاديث
تشيب النواصي، وتحرق فؤاد العدو، وتحير من هولها ذوي الأحلام،
وسترى الدنيا أن الذي نهدد به القوة التي خبأها الدهر في أعصابنا،
والتي صنعها لنا ميراث آباء صدق، في عشرة آلاف معركة مظفرة
خاضوها، ومائة ألف قاعة منيعة اقتحموها، وألف ألف روح طاهرة،
في سبيل الله والحق أزهقوها - حقائق، ليست خطابيات تسود بها
الصحف، ويتسلى بها القراء.
ولئن أخذت الأيام السلاح والمال منا، فوضعتهما في أيدي عدونا، فما أخذت منا إيماننا ولا مضاءنا، ولا سلبتنا عزتنا ولا نبلنا، ولا بدلت جوهرنا، ولا جعلت عدونا مثلنا، لأن الجبان الشاكي السلاح، لا يغدو بالسلاح بطلا، والبغل المحلّى سرجه بالدر لا يصير بالدر جواداً. . . والأمم الواغلة على المدنية، العابثة بالمبادئ الإنسانية، المتخذة العلم ذريعة إلى التدمير، والفن وسيلة إلى الفساد، ليست مصل الأمة التي حملت وحدها أمانة المدنية دهراً طويلا، فما عرفت يد آمن عليها، وأنفع لها، من يدها: أخذت المندل فنقّت روضة الحضارة من الأشواك، ثم مهدتها وحرثتها وشقت لها الجداول، وأقامت لها السدود، وسعتها الماء عذباً نقياً، حتى إذا بسقت أدواحها، وامتدت ظلالها، وملأ الِجواء ريَّا زهرها، وانتشى الناس