قطعني منذ طويل عن مواصلة الكتابة قواطع الأسى والمرض. وفي هذه الفترة الفاترة تقلبت على العين مشاهد، وتعاقبت على الأذن أحاديث، وتواردت على الذهن خواطر؛ فكان المصري الذي في دمي، والكاتب الذي في طبعي، والصحفي الذي في همي، يحاولون أن ينفعلوا على القلم كلما نجم في الوطن حادثة، أو جرى في الشعور عاطفة، أو بدا على (الرسالة) حاجة؛ ولكن الجسد الموهون لا يستجيب لنشاط، والفؤاد المحزون لا يهتز لأثر. وهل الدنيا إلا دنياك أنت؟ تدوم فيها ما دامت فيك، فإذا ما انعدمت في نفسك انعدمت في حسك؛ وإذن لا يكون سرورها سرورك، ولا حزنها حزنك، ولا متاعها متاعك؛ ماذا يفيدك الترياق بعد أن مات حبيبك مسموماً، وماذا تردُّ عليك مباهج الناس إذا بات قلبك مهموماً؟
كنت وأنا في الإسكندرية أقف على سياج الكرنيش، أو أسير على رمال الساحل، فأرى فيض الحياة يتدافع في أمواج البحر وفي أفواج الناس، وروعة الجمال تتجلى في رواء الشباب في الشارع وألوان الأصيل في السحب ومغرب الشمس في الماء، وإشراق الغبطة يلمع في العيون القريرة وعلى الشفاه المفترَّة، وصفاء الوجود يشيع في زمر المصطافين فيكون في أُهُب الأطفال مرحا وفي قلوب الرجال فرحاً وعلى مضاحك الغيد فتنة، وأسمع لغة الفردوس المفقود من فمي آدم وحواء وقد اضطجعا عاريين على رمال الشاطئ بين وسوسة الشيطان وفحيح الأفعى، وهديرَ الأمواج المتعاقبة منذ يومها الأول على سيف البحر، وقد خلطه الخيال الشاعر بهتفات القيصر وضحكات كليوبطرة، وغماغَم الهوى والشباب تَطَّاير إلى الآذان الخلية فتقع منها موقع النغم الساحر في جوف الليل الساجي البعيد، وأحاديث المفاوضة والمعاهدة والمعارضة تتشقق بين الجماعات فتكون في الغالب حماسة من دلائل الصحة، وفي النادر هذياناً من أعراض المرض. كنت أرى وأسمع كل أولئك وأنا في وحشة الغريب وبلادة الذاهل، كأنما انقطع التيار الروحي بيني وبين الناس، فأنا مظلم وهم في نور، وساكن وهم في حركة، ونافر وهم وحدات متسقة في نظام المجتمع، وناشز وهم نغمات منسجمة في نشيد الكون.
يوم واحد من أيام الإسكندرية استطاع أن ينقلني من عدمي إلى الوجود، ويخرجني من