إن موضوع الخيانة العظمى التي تتهم جمهرة المؤرخين هذا الوزير بها موضوع دقيق، اذ ليس لدى من يعرض لهذا الحادث التاريخي المهم الادلة الكافية التي تخرجه بنتيجة حاسمة لا جدل فيها ولا مغالطة، وكيف يتسنى لكاتب ان يصل لحقيقة تحيط بها الشكوك وتكتنفها الظنون؟ لأن ما يظهره بعض من كتبوا او قل تعرضوا لهذا الأمر الخطير من ميل مع هوى النفس وخضوع للعواطف يزيد في التحير والتشكك. زد على هذا وقوع هذا الحادث في فترة فوضى واضطراب استولى الرعب فيها على مشاعر الناس، وكيف لا وهي فترة تقتيل وتشريد وتحريق وتدمير. وفي احوال كهذه يجب الشك، ويلزم الحذر والتنبه لاكثر ما يروي عما يقع عادة في خلال هذه الاحوال المضطربة، لأن الفزع والذعر يخرجان المرء عن الطبيعة الهادئة المتروبة التي تتطلبها رواية الحوادث ولا سيما الهامة منها، فالاضطراب والتشويش صنوان متعانقان فضلاً عن رواج سوق الشائعات، ولا سيما الباطلة منها في اوقات الانقلابات والاحداث السياسية المهمة، وسأضع الآن بين أيديكم ما تقوله المصادر الأولية عن هذا الحادث، مبتدئاً بالمصادر حسب اوليتها، وبعد ان افرغ من ذلك سأحاول جهدي المقابلة بين المصادر، ثم نقد مواطن الضعف في كل مصدر. وأبدأ بما يقوله ابن الطقطقي في صدد الكلام عن مخامرة الوزير (ونسبة الناس انه خامر. وليس ذلك بصحيح. ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة، فان السلطان هلاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد الى الوزير وأحسن اليه وحكمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق اليه).
وبعد أن ينتهي من هذا البرهان يذكر لنا روايته عن تصلب الوزير واصراره على عدم الخروج الى هلاكو. ويروي المؤرخ هذه الرواية عن ابن أخت الوزير، ومألها أن الخليفة طلب وزيره وقال له (قد أنفذ السلطان بطلبك، وينبغي أن تخرج اليه، فخرج الوزير من ذلك، وقال يا مولانا اذا أخرجت فمن يدير البلد ومن يتولى المهام؟ فقال له الخليفة لابد من أن تخرج. قال فقال السمع والطاعة، ثم مضى الى داره وتهيأ للخروج ثم خرج. . فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان. . . . فلما فتحت بغداد